عبدالعزيز السماري
هناك من يبدي ضجراً من تبعات التغيير الاجتماعي ومن التطورات المتلاحقة في قضية الحقوق، وخصوصاً عند المرأة، والجدير بالذكر أن قضية وعي الإنسان ببعض حقوقه ليست شيئا جديداً أو طارئاً، ولكنها نتيجة طبيعية لتراكم العلوم والمعارف وانتشار التعليم..
فالوعي الذاتي في تاريخ البشرية وجد ضالته في حراك التنوير الثقافي، وهي حركة فكرية متأخرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتقوم على العقل والفردية والشك، وكان لها جولات وصولات في محاربة الجهل والتعصب والانقياد الأعمى وكشف التناقض في الخطاب الديني.
الوعي الذاتي حراك عقلاني يأتي نتيجة لخروج التعليم من السلطة المركزية، ومن حلقات الاستبداد الجماعي بالعقل، وقد قدم الفلاسفة جهداً عقلانياً جباراً للخروج من سلطة رجال الدين أو رجال السلطة، وكانت النتيجة خروج الحرية الفردية عن السيطرة المركزية، وانطلاق عصر الحريات الفردية بكل ما تحمله من سلبيات وإيجابيات..
كان من الأخطاء التي ارتكبها رجال الدين أنهم كانوا يروجون لأفكار ليس لها جذور في الدين، ويقدمونها على أنها من أركان الدين في زمن سيطرة الكنيسة، وكان إثبات خطئها من قبل فلاسفة العقل قد مهد الطريق لزوال سلطة الكنسية، وبزوع الفردية وانهيار الأخلاق الدينية في الغرب.
ساهم الثراء الفاحش للكنيسة في كشف زيف خطاب الفضيلة الديني، فقد اكتشف العوام بعد عقود أنهم فقراء، وأن الثروة والإقطاع تملكها المؤسسات الدينية ورعاتها، وهو ما سهل مهمة الفلاسفة في القضاء على سلطة الكنيسة، ويدخل ذلك في باب وعي الإنسان بالأشياء من حوله..
الأمر لا يحتاج إلى فلسفة أو مصطلحات يستعصي فهمها، فالثروة والسلطة كانت هدفًا أسمى لكثير من رجال الدين، ولو تأملنا تجارب الصحوة أو اليقظة الدينية في الشرق لاكتشفنا أن رجال الدين من مختلف الطوائف خرجوا بثروات طائلة من الاستثمار في نشاطات الصحوة الدينية، فالمرجعيات الشيعية ثرية للغاية، وتستغل فرض الخمس للحصول على الأموال الطائلة من العوام المغلوب على أمرهم.
كذلك بعد هدوء تسونامي الصحوة الدينية في دول الشرق السنية، ظهرت أرقام الثروات الطائلة في أرصدة الرموز والعائلات الدينية، وهو ما ساهم فعلاً في انهيار بعض من جدران الأخلاق الدينية، وقد يؤدي إلى انفلات الفردية وسيطرة العقل والشك بين الأجيال الجديدة، وقد يحتاج الأمر إلى عقود أخرى من أجل بنائه من جديد، ولكن من خلال قالب ثقافي.
هذا ما حدث في الغرب، فبعد انكشاف رغبات وشهوات رجال الدين في جمع الأموال من خلال السيطرة على الناس، انهار جدار الأخلاق الدينية، وعاش المجتمعات الغربية زمناً منفلتاً من سلطة الأخلاق القديمة كان هدفه البحث عن السعادة من خلال الحرية الفردية، لكن الحاجة إلى الأخلاق والواجب عادت من جديد من خلال أطروحات فليسلوف تلك المرحلة إيمانويل كانط.
فقد استبعد اللذة والمنفعة والسعادة كغاية قصوى لأفعال الإنسان الإرادية، إذ جعل الباعث في الإرادة نفسها، وبذلك ارتدت عنده الأخلاقية إلى مبدأ الواجب، وكان يري إن محافظة الإنسان على حياته واجب، والإحسان واجب، وتأمين الإنسان لسعادته الذاتية واجب غير مباشر، ومحبة الجار ولو كان عدوًا واجب..
كان يردد أن المبادئ الأخلاقية قبلية بحتة وخالصة من كل عنصر تجرييي، وأنه لا يمكن أن نجدها أو نجد أقل جزء منها إلا في تصورات العقل الخالصة، ومن السهل أن نفرق بين الأفعال التي تصدر عن شعور بالواجب، والأخرى التي تنبع عن حرص أناني على المصلحة الفردية..
نجح كانط في إيصال الوعي الإنساني إلى مرحلة كشف اللبس بين نظرية الواجب وواقع المصلحة الفردية، وهو ما وقع فيه بعض رجال الدين في مختلف الأديان عندما لم يستطيعوا فصل المصلحة عن الواجب، وذلك عندما انساقوا خلف ملذاتهم وغرائزهم الفردية من خلال خطاب الواجب، وكانت شواهده جمع الثروات الضخمة واستغلالها في الزواج المتكرر والبحث عن المتعة والملذات من خلال ذلك الخطاب.
قبل كانط، وبقرون عديدة، قال الشاعر العربي لا تنه عن خلق وتأتي مثله...عار عليك إذا فعلت عظيم، لذلك.. وقبل أن نبدي الأسف الشديد على انفلات الحقوق الفردية بين النساء والرجال، يجب على الذين يتحدثون من خلال المنابر أن يكونوا مثالاً حياً على الفضيلة والصلاح والتسامح والزهد، وقبل ذلك أن تكون الخطوط في غاية الوضوح بين خطاب الواجب ومصالحهم وغرائزهم الفردية..