عبد الرحمن بن محمد السدحان
* تزخر ساحةُ الحرف المكتوب والمسموع بملاحمَ من الجدل والجدل المضاد حول موقفٍ ما قد يرى صاحبُه أن لا عيبَ فيه ولا عوجاً، فيتصدَّى له طرفٌ آخر معترضاً، ثم يتوالى السجال بينهما تأييداً أو معارضة على نحو قد يُخرجُ الموضوعَ عن سياقه، وقد (يستعين) الجدل بالأيدي والأقدام أحياناً! ولو التزم المعترِضُ أو المعترَضُ عليه بأخلاقيات الجدل القويم بلا تسفيهٍ للطرف الآخر أو تشويه لفكره وإنسانيته لهان الأمر، ولاستفاد من مخرجاته المعنيوّن به، واكتسبت الثقافة إضافة تثري مخرجاتها !
* * *
* وموضوع كهذا من القضايا التي تشدُّ الأنظار، خاصة إذا كان البثُّ للجدل مرئياً أو مسموعاً، إذ يخرجُ المتجادلانُ عن السياق الأدبي والأخلاقي والإنساني، وأذكر أنني كتبت ذات يوماً نصاً قصيراً (أنتقد) فيه النهجَ غيرَ السوي للنقد الذي نشهده بين الحين والآخر، عبر أعمدة الصحف أو التلفاز أو من خلال بعض وسائط التواصل الالكتروني.
* * *
* وقد صوَّرت الموقف عبر الرؤية التالية:
* تبدأ الخصومة في الغالب (بنقطة نظام) يثيرُها أحدُ طرفيْ الجـدل، إما اعتراضاً على ما طرحه الندُّ الآخر أو تصحيحاً له، أو إضافة إليه، وقد يردُّ الطرف الأول على ناقده رداً جميلاً، وإذا عتب عليه كان في عتابه أدبُ القول وعفةُ المعنى، وهذا نهج حميد ومحمود.
* * *
* لكنّ أحدَ طرفيْ الجدل قد يخرج عن النصاب الأدبي والأخلاقي، فيردَّ على معارضه رداً غليظَ المعنى، قاسيَ اللفظ، مشبوهَ الغرض بحجّة تصويب ما رأى فيه عِوَجاً، وقد يصف منتقده وصفا شخصيا بما يكره، وقد يستدرجه إلى (منازلة) لا أدباً فيها ولا فكراً، ثم يتحوّل مدادُ الأسطر إلى جداول من (دم) الكبرياء المراق على حوض الجهل بأدب الاختلاف وأدبيات الحوار، وقد يستمر «التراشق» بالألفاظ بين الطرفيْن زمناً حتى يكلَّ أحدُهما أو كلاهما أو يتدخل ذو سلطة لإيقاف (منازلة) الهزل بينهما!
* * *
* هنا، ينسَى كلاَ طرفي الجدل أو أحدُهما أنه لا يملك وحده سراجَ الحكمة ولا سِـرْج خيلها، ينسى أحد الطرفين أو كلاهما.. أن (الاختلاف) في المسائل الاجتهادية، نعمةٌ لا نقمة، وضرورةٌ لا ترف، وفضيلةٌ لا عبث، به تُنقّحُ المواقفُ، وتُصَحّحُ المعلومات .. وتُثرى المعرفة، وبدونه.. تتحول روافد المعرفة إلى قوالبَ جامدةٍ.. لا جمالٌ فيها ولا طعم ولا نفع!
* * *
* ينسى أحد الطرفيْن أو كلاهما الفرقَ بين (النقد) و(الانتقاد)، الأول يُعنَى بالفكرة بعيداً عن «حِمَى» الكرامة الشخصية لصاحبها، والثاني يخلط بين الفكرة وكرامة صاحبها، فيتَحوّل (الاختلاف) السويُّ إلى (خُلْفٍ) مريض يُدْمي الوجدانَ، فلا يعودَ المرءُ يَعرفُ من الناقد، ومن المنقود، أو يفرّقُ بينهما!
* * *
* أعود الآن من حيث بدأتُ، فأزعم أن أمراً كهذا جدُّ عسير لأنه امتدادٌ لإعاقة عتيدة في تركيبتنا الثقافية بدْءاً بمقاعد الدراسة، مستصحبةً معها عِوَج التربية في البيت .. فكثيرون منا لم يتعلموا أدب الحوار، لا في المدارس ولا في البيوت، بل اعتادُوا التلقين للتعامل مع المعرفة.. عبر مسارٍ أحاديِّ يستنكر الاختلافَ ويسفِّه صاحبَه! أمَّا تربية المنزل فتخضع في كثير من الأحوال لمعادلة القمع أو الرفض أو التسفيه، ومن ثم كيف لنا أن نُحْسِنَ التعاملَ مع الرأي الآخر، إذا كنا في الأصل لا نملك القدرةَ ولا القدوةَ ولا التدريبَ لفعل ذلك!
* * *
* كيف نطالب أفراد جيلنا (بأنْسنَةِ) الحوار واستثمار أخلاقياتِه، في غياب الممارسة العقلانية له في المدرسة والبيت والمكتب وحتى الشارع!
* الحلُّ ليسَ (وصفةً) جاهزةً تُباع وتُشترى.. لكنه ممارسةٌ تربوية وأخلاقية وإنسانية معقّدة يشترك في صِيَاغتها وتأْصيلها البيتُ والمدرسةُ ومَنابرُ الرأي: مسموعاً أو مكتوباً!