د.عبدالله مناع
بداية.. أحسنت منظمة العلوم والثقافة والآداب والفنون (اليونسكو).. باختيار يوم الثالث والعشرين من شهر (إبريل) من كل عام.. ليكون: (اليوم العالمي للكتاب)، فليس هناك أفضل ولا أعظم من هذا اليوم في دنيا الثقافة وتاريخ الأدب.. فهو اليوم الذي فقد فيه العالم عميد كتاب المسرح: (الكاتب المسرحي البريطاني (وليم شكسبير).. صاحب (روميو وجولييت) وكانت مأساة الأمير (هملت) وحيرته في (أن يكون.. أو لا يكون) و(ماكبث) و(عطيل) و(تاجر البندقية).. وغيرها من الأعمال المسرحية الخالدة، وهو اليوم الذي صادف -أيضاً- موت الروائي الإسباني الأعظم (ميغيل دي سيرفانتس) صاحب أشهر روايات القرن: (دون كيشوت).
وقد كان عظيماً.. أن تتكفل (اليونسكو)، والمنظمات الدولية، التي تمثل القطاعات الرئيسية (الثلاث) لـ(صناعة الكتاب).. وهم: (الناشرون)، و(باعة الكتب)، و(المكتبات).. بـ(اختيار): العاصمة العالمية للكتاب.. كل عام.. اعتباراً من يوم 23 إبريل من العام إلى العام الذي يليه، وقد تم اختيار العاصمة اليونانية: (أثينا).. لتكون عاصمة العالم لـ(الكتاب) هذا العام (2018م).
وقد ذكرت (اليونسكو) معظم هذه التفاصيل.. في أعقاب مؤتمرها الذي عقدته في مقرها الدائم بالعاصمة الفرنسية (باريس) عام 1995م حيث تم الإجماع على (اختيار) يوم الثالث والعشرين من إبريل ليكون اليوم الذي يجرى فيه الاحتفال عالمياً بـ(الكتاب) وحقوق المؤلفين، وهي تشير بصورة أنيقة -راقية- إلى حيثيات اختيارها لذلك اليوم -دون سواه-، لأنها أرادت بذلك (الاختيار): (التعبير عن تقديرها، وتقدير العالم أجمع للكتاب والمؤلفين، وذلك عن طريق تشجيع القراءة بين الجميع.. وبشكل خاص بين الشباب، وتشجيع استكشاف: «المتعة» من خلال القراءة، وتجديد الاحترام للمساهمات التي لا يمكن إلغاؤها.. لكل الذين مهدوا الطريق للتقدم الاجتماعي والثقافي للانسانية جمعاء). كتلك «المتعة».. التي لم أنسها رغم عشرات السنين.. خلال وبعد قراءتي لـ«مقدمة» رواية «السأم» الطويلة الرائعة، والتي امتدت بـ(كاتبها) الروائي الإيطالي الأشهر (البرتو مورافيا).. لستين صفحة، أو تلك المتعة التي تركتها في عقلي وقلبي ووجداني.. «يوميات» وكيل النيابة الأستاذ توفيق الحكيم التي أصدرها -فيما بعد- تحت عنوان: «يوميات نائب في الأرياف».. فكان القراء الذين كانوا ينتظرون نشر حلقاتها أسبوعياً.. وكأنهم يلتهمونها عند نشرها.. يأكلونها ويشربونها ولا يقرأونها من فرط جمالها ومتعتها التي لا تعادلها متعة.
***
نعم امتدت الاحتفالية بـ(الكتاب) عاماً بعد عام.. وإلى يومنا هذا.. بل وبقي الكتاب (الورقي) سيداً وسائداً.. دون منافس فعلي له، حتى اليوم.. إلا أن الكتاب (الجميل) الذي يستحق القراءة أصبح في ندرة زهرة (التويلب) السوداء!
لقد تاه الكتاب الجميل -إن كان «رواية» أو مجموعة قصصية، أو ديواناً من الشعر- وسط الكثرة وزحمة (الغث).. التي أنبتت لدينا في (المملكة) العام الماضي -على سبيل المثال-.. أكثر من مائتي روائي.. ومائتي «رواية»..؟ تبحث عنها في عقول القراء وذاكرتهم.. فلا تجد لها أثراً.
فأين أشباه رواية «رد قلبي» السياسية للأستاذ يوسف السباعي.. بل وأين أشباه روايته الاجتماعية الرائعة «السقا مات» أو روايته الرومانسية «بين الاطلال» أو «أذكريني»!؟ وأين أشباه رواية: «شيء في صدري» السياسية.. للأستاذ إحسان عبدالقدوس، أو روايته الاجتماعية «في بيتنا رجل» أو روايته العاطفية.. «لا أنام»؟ وأين أشباه رواية الأستاذ توفيق الحكيم الخالدة «عودة الروح» أو أشباه مسرحياته الرائعة: «شهرزاد» و»أهل الكهف»، و»الأيدي الناعمة» التي قدمت - لفرط جمالها- مسرحياً وسينمائياً..؟! أو أين أشباه رواية الأستاذ عبدالرحمن منيف -المتنازع على جنسيته بين «المملكة» و «العراق»-: «شرق المتوسط».. السياسية.. التي كانت تحكى قصة أمة، وقصة عقد مرعب من الخلل السياسي العربي المروع.. الذي امتدت آثاره السلبية في حياتنا العربية إلى يومنا هذا.. وأين أشباه روايته الاجتماعية: «مدن الملح».. بـ أجزائها الثلاث؟!.. وأين أشباه رواية الكاتب العربي السوداني الفنان.. الأستاذ «الطيب صالح»: (موسم الهجرة)؟!، أو (دومة ود حامد)، وأين أشباه مجموعات «يوسف ادريس» القصصية القصيرة كـ(آخر الدنيا) و(لغة الآى آى) و(بيت من لحم)؟! وأين أشباه قصائد الدكتور غازي القصيبي، وحسن القرشي، وطاهر زمخشري، و»رائعة» دواوينه (حطام قيثارة):
(مهما أراق دمي في الشجو إعصارُ
لسوف تبلع بي للقصد اقدار
ولقد قطعت على الصهر الجميل مدى
فـ لم يطل في الطريق الوعر مشوار
ضاع الشباب ولم ادرك لبانية
ومن عزائمه في النفس تيار
به أهيم على الدنيا وفي كبدي
حرائق نارها للناس اشعار
ولي قلب على الاشجان خفقته
يشدو وترجع بالاصداء اسحار
اذا الزمان تحده وطاوله
فالصبر من حده ماض وبتار
يلقى القضاء ولا يخشى مضاربه
لانها في رقاب الخلق انذار
تمضي به الليالي في ظهر مركبة
لها شراعان اقبال وادبار)
وأين أشباه قصائد: «الأخطل الصغير» أو «بشارة الخوري» السياسية:
(سائل العلياء عنا والزمانا
هل خفرنا ذمَّةً مُذْ عرفانا
المروءاتُ التي عاشت بنا
لم تزل تجري سعيراً في دِمانا) أو (الوجدانية):
(أتت هند تشكو إلى أمها
فسبحان من جمع النيرين
فقالت لها إن هذا الضحى
أتاني وقبلني قبلتين
وفر.. فلما رآني الدجى
حباني من شعره خصلتين
وما خاف يا أم بل ضمني
وألقى على مبسمي نجمتين) أو (العاطفية):
(الصِّبَا وَالجَمَالُ مُلْكُ يَدَيْكِ
أيُّ تَاجٍ أعَزُّ مِنْ تَاجَيْكِ
نَصَبَ الحُسْنُ عَرْشَهُ فَسَألنَا
مَنْ تُرَاهَا لَهُ فَدَلَّ عَلَيْكِ)
وأين أشباه (قصائد) كامل الشناوي السياسية (كنت في صمتك مرغم.
كنت في صبرك مكره. فتكلم وتألم وتعلم كيف تكره)، والعاطفية (لا تكذبي. إني رأيتكما معا: عيناك في عينيه.. في شفتيه في كفيه في قدميه، ويداك ترتعشان من لهف عليه).، بل وأين حتى أشباه رواية الكاتبة الجزائرية الشابة «أحلام مستغانمي»: (ذاكرة الجسد)..؟.
بكل أسف.. لم يعد من ذلك شيء.. إلا فيما ندر، وأصبحت الأبواب مفتوحة -في المقابل- على مصراعيها لانصاف الموهوبين وأرباعهم.. ولأولئك الذين يتأتؤون أدباً وشعراً وفكراً.
***
لقد كان متوقعاً.. أن يشهد هذا العام 2018م.. احتفالية أكبر وأعرض بـ(الكتاب) ويومه العالمي، على مستوى جامعاتنا ومعاهدنا، وأنديتنا الأدبية وصحافتنا ومكتباتنا العامة والتجارية.. بعد أن أصبحنا في قلب (الكتاب): إنتاجاً وعرضاً.. فقد أخذت تتلاحق -بشكل مبهج- معارض الكتاب بين مناطق المملكة ومدنها: من الرياض إلى جدة إلى الدمام إلى عنيزة إلى الطائف وجيزان وأبها والجوف.. فكان جديراً بهذه الصورة المشرفة أن تقدم المكتبات عروضاً مخفضة لـ(الأطالس) و(المعاجم).. مثلاً، على أن تتولى الأندية الأدبية إقامة الندوات وورش العمل حول (الكتاب) وإنتاجه وتوزيعه وتسويقه داخلياً وخارجياً.. إلى جانب اختيارها لـ (أفضل) كتاب صدر عام 2017م.. إن كان رواية أو مجموعة قصصية أو ديواناً من الشعر.. ليجرى الاحتفال به وبـ(كاتبه) أو (كاتبته)، أو أي فعاليات آخرى تليق بـ(المناسبة) وأهميتها و(جلالها).. لكنني -وبكل أسف- لم ألحظ شيئاً ساطعاً لامعاً من (الفعاليات) يستحق التوقف عنده أو الإشادة به إذا استثنينا: فعالية: تأبين نجم (الصحافة) الفقيد العزيز والكبير الأستاذ تركي السديري.. الذي كان بحق نجم صحافة الثمانينات والتسعينات دون شك.. ثم قعدت به صحته من بعد.. إلى يوم أن رحل مأسوفاً عليه.. -رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته-.