د.صلاح الفروان
لا أرتاب في أن مفهوم الإبداع والابتكار قد صار حديث الأكاديميين والباحثين في كل المؤتمرات التعليمية، العربية والعالمية على حد سواء. ولعل أبرز هذه المؤتمرات (مؤتمر القمة العالمي وايز للابتكار في التعليم) الذي أراه قد أضحى مناسبة مهمة للبحث عن سُبل تطوير التعليم من خلال طرح أفكار متجددة، ومبادرات رائدة، لا تعرف المستحيل، إضافة إلى التوصيات التي تنتجها المنظمات عبر العديد من الورش التي تجمع خبراء عالميين من هنا وهناك.
من هنا جاء إعلان رؤية المملكة العربية السعودية 2030 مواكبًا لرسالة التعليم، بل داعمًا لمسيرته؛ لبناء جيل جديد قادر على تحمُّل المسؤولية، واتخاذ القرارات المستقبلية الحاسمة. وانطلاقًا من هذه الرسالة جاءت رؤية المملكة؛ لتوفير فرص التعليم للجميع من خلال بيئة تعليمية مناسبة في ضوء ما تتبناه السياسة التعليمية الراشدة للمملكة، وفي ضوء أيضًا رفع جودة مخرجات التعليم، وتشجيع الإبداع، والابتكار، والتطوير، والتجديد، والارتقاء بمهارات وقدرات منسوبيه.
ولا شك أن الابتكار هو القدرة على تطوير فكرة أو عمل بطريقة أفضل وأيسر في فترة زمنية معينة نتيجة تفاعل الفرد وخبرته التي تساعده على التفكير المنطقي الهادف، وليس التفكير العقيم القائم على الروتينية، والتقليدية التي لا تحقق رضا الفرد أو المجتمع الذي يتطلع ويتشوق دائمًا إلى كل جديد عصري يناسب حركة الحياة، وسرعة الزمن في ظل وجود عناصر إنتاجية متعددة كالأصالة، والواقعية، وقابلية التعميم، وإثارة دهشة الآخرين.
ويتميز أهل الابتكار بالعديد والعديد من الصفات المشتركة كـ(حب الاستطلاع، وتحدي الطرق التقليدية العقيمة، والتفكير المبهر الخارج عن المألوف، وابتكار أشياء لم يتطرق إليها أحد في السابق، أو تطوير أشياء قديمة بأسلوب جديد يختلف كلية عما كان عليه؛ من أجل أن يصبح ابتكاره جديدًا متميزًا، فضلاً عن التمتع بالذكاء، والفطنة، والقدرة العقلية الفائقة). ومثل هؤلاء لا يعملون في الفراغ، وإنما يعملون داخل محيط تنظيمي، من شأنه أن يؤثر بشكل كبير على ابتكارهم، أو شخصياتهم؛ ومن ثم ينبغي القول إن إدارة المؤسسة وثقافتها لهما دور كبير وفعّال في التأثير على العملية الابتكارية بالإيجاب أو السلب. ليس ذلك فحسب؛ وإنما أيضًا تتشكل شخصياتهم وما ينتج من أفكارهم وابتكاراتهم بـ(العوامل البيئية)؛ إذ لها النصيب الأكبر في العملية الابتكارية المرتبطة بالعوامل الاجتماعية والثقافية التي تبدأ وتنتهي عند (الأسرة).
ودع عنك هذا إلى البحث في أدوار المؤسسات التعليمية، والثقافية، والنفسية، والتربوية... إلخ؛ إذ لكل منها دور كبير في التأثير على الفرد، وعلى طريقة تفكيره، وتشكيل مزاجه وعوامل نفسه، وتحفيزه على الإبداع من خلال نشأته وتربيته ثقافيًّا، واجتماعيًّا، ودينيًّا.
ولكن مهلاً! فهل ثمة علاقة بين تعليم اللغات والابتكار؟ نعم.. فقد اكتشف علماء من المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو بالتعاون مع زملاء من جامعة هليسنكي (Helsinki) أن تعلُّم اللغات الأجنبية من شأنه أن يعزز مرونة أفكارنا الذهنية، وثقافتنا الفكرية. والمرونة أحد مكونات الابتكار (الطلاقة، والأصالة، والمرونة).
والشيء المذهل اكتشاف أن تعلُّم اللغة الأجنبية يؤدي إلى نمو وتطور الذهن والفكر معًا؛ إذ أشارت الأمم المتحدة في تقريرها لعام 2015م إلى أن مفهوم المعرفة والابتكار لا يتوقف على العلوم والاكتشافات العلمية فحسب؛ وإنما يتجاوز ذلك ليشمل الفكر، واللغة، والأدب، وما إلى ذلك من العلوم والمجالات الأخرى.
يقول العلماء: أظهرت الدراسات أن للغات الأجنبية تأثيرًا خارقًا على الذهن. والحقيقة القاطعة أن دراسة الألسنة والكتابات غير المألوفة تجعل الذهن يعمل بأقصى طاقته، وما في وسعه، بل يتمدد فكريًّا تجاه التفكير بطريقة غير مألوفة، ينتج منها - في كثير من الأحيان - ابتكار طرق، ووسائل أكثر فاعلية. وقد اكتشف المتخصصون أن الدراسة المكثفة للألسن الأجنبية تحفز نمو الحصين (البنية العميقة من الدماغ المسؤولة عن تطوير المعارف الجديدة، والتكيف مع الظروف، ومعرفة الاتجاهات، وتقوية الذاكرة من المدى القصير إلى المدى البعيد، والتفكير خارج المألوف الذي هو أحد سمات الابتكار)، وتسبب تغييرات في بنية الدماغ، وتساهم في التفكير خارج الصندوق؛ وبالتالي في الإبداع، والابتكار، وفي طرق التفكير، والوصول إلى فكرة مبتكرة، وطريقة متميزة.
وعرض على الشباب في الأكاديمية السويدية دراسة لغة من اللغات الثلاث: (اللغة العربية، أو الروسية، أو الدارية [لغة الطاجيك الأفغان]) لمدة 13 شهرًا، وكان على الوافدين تعلم اللغة طوال اليوم بطريقة مكثفة شاقة جدًّا. وقد لوحظ أن هذا العمل المجهد للعقل والجسم معًا نتج منه نتائج مبهرة، وبشكل غير متوقع؛ إذ بعد ثلاثة أشهر من الدراسة كانت النتائج مفاجئة في بنية الدماغ عند الطلاب الذين درسوا لغة أجنبية؛ إذ ثبت أن بعض أجزاء الدماغ لديهم قد ازداد حجمها. ليس ذلك فقط؛ وإنما وجد الباحثون أن (النمو) كان على وجه الخصوص في الحصين.
ويقول باحثون أمريكيون: إن الموظفين الذين يعرفون لغة أجنبية يمكنهم التعامل مع المهام العقلية أفضل من أولئك الذين يتحدثون لغتهم الأم فقط؛ لأن الحاجة إلى التبديل بين لغتين تمكِّن الأشخاص الذين يتحدثون لغتين من تدريب الدماغ باستمرار؛ وهذا يؤدي إلى الخروج عن المألوف بالإيجاب نحو مزيد من الإبداع والابتكار.
كذلك ثبت أن تعلم اللغات الأجنبية يسهم في شحذ أدمغتنا؛ إذ أجرى باحثون تجارب، تم تسجيل نشاط الدماغ فيها بواسطة جهاز تخطيط الدماغ الكهربائي، وقد تم تتبع تغيرات في نشاط الدماغ عند بروز كلمة معروفة، أو غير معروفة، وركز الباحثون بشكل خاص على السرعة التي يعدل بها الدماغ نشاطه؛ لمعالجة مفردة غير معروفة، بل أظهرت التجارب أن نشاط الدماغ الكهربائي للمشاركين الذين يعرفون لغات أجنبية كان أعلى من الآخرين.
ومن الطريف أن أبحاث الخيال العلمي تحدثت عن هذا الموضوع أيضًا؛ فقد ذكرت صحيفة «هوفنتجتون بوست» الأمريكية أن «نيجروبونت» تحدث في كلمته في أحد المؤتمرات العلمية التي تنظمها شركة «TEDX» قائلاً: «لقد استهلكنا الكثير من المعلومات من خلال أعيننا، ولكن علينا الآن استيعاب تلك المعلومات بشكل جيد.. سيكون بإمكانك تعلم اللغة الإنجليزية، أو قراءة روايات شكسبير عبر ابتلاع حبوب فقط».
وحدث تطور كبير في تعلم اللغات الأجنبية، وأصبح هنالك ابتكارات في تعلم اللغات كاستخدام المنصات الإلكترونية، ومجموعات الدردشة على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، واستخدام موقع تويتر، والتعلم بالجوال، واللوحة البيضاء التفاعلية، إضافة إلى التحدث بدون كتب.
ويستنتج مما سبق أن التعليم، ولاسيما تعليم اللغات الأجنبية، تشكل استثمارًا أمثل في العقول، وهو الاستثمار الأكثر ربحية، فضلاً عن أن الاستثمار في البحث والتطوير يحتاج الباحثون فيه إلى اللغة الإنجليزية؛ لتبادل نتائجهم، بل الاستمرار في الاطلاع على عمل زملائهم في كل أنحاء العالم.