في بعض المناطق القصية والبعيدة عن المركز، يستأثر فئام من المثقفين بالمشهد الثقافي، هذه الأثرة تتجلى في تعدد وسائل الحضور التي يحضر من خلالها بعض هولاء المثقفين، ففي الصباح الباكر كاتب عمود، وبعد المغرب شاعر، وفي الأوقات المستقطعة يظهر بعده التلفزيوني، كضيف ومضيف ومذيع.
هذا التفرد على مستوى الحضور يجعل المتابع حيرانا، فيتساءل، أنى لهذا (المثقف)كل هذا؟، وكيف أصبح متعدد المواهب طاغي الحضور في المشهد الثقافي لمدينته الصغيرة نسبيا؟
الأمر أعزوه إلى القلة والندرة فى تلك الأماكن، وهاتان الصفتان محكومتان بالعدد أولا، ثم باحتكار صناعة النجوم الإعلامية في مناطق الأطراف مع قدرة الحفاظ على خط إنتاجي ثقافي يكون محكوما أصلا بمواصفات محددة، وقبلها مكونات شخصية معينة تنعكس على اللون الثقافي المشاع والسائد وتزيده دكانة وربما سوداوية ليظل هو الطيف الثقافي الوحيد، وشخوصه النافذون، هم المثقفون.
بعض الصدف تحمل أحدهم ليشغل مساحة يومية في مطبوعة، هذه المساحه تخوله أن يصبح صانع ثقافة طرفي، ومطوع للحراك الثقافي في تلك البقعة القصية، يصبح من خلال موقعه، محكمًا ومتحكمًا في كل صوت كتابي يحاول الولوج إلى الساحة، ومن خلال العقلية الثقافية الجمعية في تلك الناحية، يَبدأ في التركيز على هذا الصوت وتحديد أطره ومفاهيمه، بالرغم من أن هذا القادم يحمل نفس البصمة الثقافية ومتلازمات حضورها، إلا أن مواصفات خط الإنتاج الذي تديره تلك القلة لا يعتمده كمشروع يتماهى مع السائد في تلك البيئة، ولا تتاح له الفرصة ليمارس اختلافه الذي يجعله قيمة مضافة للمشهد الثقافي وتفاعلاته وتجلياته.
سدنة الثقافة في تلك البقع القصية معزولون بفعل التكرار، وبفعل التعنصر للشكل الواحد بشخوصه الدائمين حضورًا وإنتاجًا.
البعض يراها شللية بالمفهوم الدارج، ولكنه في الحقيقة أسلوب قمعي ينفي الوجوه الجديدة، ويصادر إبداعها.
في الأندية الأدبية يتمترسون خلف خطهم الإنتاجي ويراقبون كل السائرين على الدرب، يتجاهلونهم ولا يرون فيهم أي قيمة معرفية تثري الواقع الثقافي، وفي المقابل يوطئون لأنفسهم كل متلازمات الحضور ويحشدون كل الإمكانات للاستئثار بالأضواء وحدهم لا شريك لهم في ذلك المكان ولحظاته الزمنية.
والنتيجة ما هي، إن الثقافة تظل في هذا الجزء البعيد معزولة عن بقية أجساد الوطن، العزلة ليست الانقطاع التواصلي، ولكنه التأخر في مواكبة الإبداع صناعة ورموزًا، وتصبح هذه المناطق القصية مستهلكة للثقافة لا تستطيع تصدير علم واحد يستطيع أن يؤسس خطًا معرفيًا يشار إليه بالبنان.
الانفتاح الثقافي يبدأ أولا داخل دهاليز المجتمعات الثقافية الضيقة، من خلال استيعاب الوجوه الجديدة والجديرة، واستيعاب الوجوه القديمة لفكرة أن الساحة تسع الجميع وأن التكتلات والكوتات التي تراعي مسائل الاحتكار وحصره على أشخاص بعينهم هي فكرة مجنونة ومتخلفة تدفع بالثقافة إلى الوراء وتزيد من عزلة صناعها، وتجعلهم وإن بدوا في أعلى السلم وجاهة وحضورا، مجرد ضيوف شرف في أي تظاهرة خارج حدود وأطر أماكنهم المعزولة التي ساهموا بانغلاقهم في جعلها نهايات طرفية في الفعل الثقافي، تقرأ ما يكتب الآخرون، وتعيد تدوير ما تنازلوا عنه من رؤى وأفكار عتيقة، تخطتها المرحلة وأصبحت جزءًا من التراث الذي يستذكر للتاريخ ثم للعظة والعبرة فقط.
** **
- علي المطوع