ربما تكون الحياة برمّتها مرتعا خصبا للشعور بالسأم والاستياء، أو ربما، كانت دربا طويلا تلهث فيه فوق الهوامش دون لمس المتون، أو لعلّها غرفة مظلمة تحجبك عن الأنوار الحقيقية للمعاني. أن تحيا يعني أنك معرض لعدد لا يحصى من الاحتمالات المفتوحة الجيدة أو سواها. في هذه المرحلة، ولست متسرعًا بهذا القول، أرتاح لتصوّر الموت بأنه المحرر من هذا كلّه، هو الالتصاق الكامل بالجوهر، الوصول للذروة لتلقي موعظتك الأخيرة، ثم ترحل بهدوء للضفة الأخرى لتبدأ هناك نزهتك الخالدة.
لازلتُ أختزن هذا المشهد في ذاكرتي. المكان هو الطابق الثاني من مستشفى التخصصي، أما الزمان فالشمس تقف معتدلة في كبد السماء، والحالة أنني أمشي مسرعًا في الممر الذي ينتهي بغرفة تبديل الملابس، فأرتدي ملابسي على عجل وأخرج مهرولًا لغرفة العمليات حيث سأقف على أقدامي أربعة ساعات. أوّل ما طرق سمعي من المريضة الممددة فوق سرير العمليات نحيب خافت صار يعلو مع كلمات مبهمة لم أفهم منها شيئا، قالت لي الأم إنّ ابنتها تهاب الموت وأنها قبل العملية بقليل كانت تلحّ بالسؤال عليها ما إذا كنتُ أحبّها بصدق أم لا. أصرّت الفتاة على السؤال وظلّت الأمُ تعطي تأكيدات حميمية حتى أغراها هذا المناخ الأمومي براحة كبيرة فاستسلمت للمخدّر وأغمضت عيونها مدة العملية وانتهينا بسلام، وبقيت أنا هناك واقفا عند عتبات السؤال، أفكّر بالموت، تلك التجربة التي من يخبرها لن يقصّ ما شاهده أو يحدث بما رأى.
يعلمنا الناجي من رعب الموت مرارًا الطبيب النمساوي فيكتور فرانكل أنّ الحياة ليس سوى بحثُ جادّ عن المعنى، لهاث شديد خلف المغزى، وهذا المعنى الذي يتفلّت منا باستمرار قد تراه في ضحكات أطفالك، أو في سقاية الزهور التي تنبت على شرفات منزلك، أو حتّى في الانغماس في العمل. لكنّ المؤسف في الأمر، حسب فرانكل، أنك لن تتمكن من الشعور بهذا المعنى الحقيقي للحياة مالم تستشعر الموت، لذلك نراه يقول “ كما أن الفصل الأخير من الرواية قد يشرح معنى الرواية بأكملها، كذلك الموت قد يعطي معنى لحياتنا بالكامل” إذن التفكير بالموت بكلّ ما يحمله من رهبة ميتافيزيقية أمر محتوم، ربما يبدو لنا للوهلة الأولى وكأنه منغصا للحياة، غير أنه وبتأمل لدقائق، نجد أن العكس هو الصحيح، لا بهجة مستديمة دون استحضار تلك الرحلة الأبديّة
لم ينجُ العقاد من هذا الخواطر حول الفناء والموت، شعر في منتصف حياته أنّه مشدود بخيط رفيع متأرجحا فوق هاويّة النهاية، وأن هذا الخيط سينقطع بأية لحظة ويهوي نحو هاوية سوداء لا قعر لها. وقد دفعه هذا الشعور إلى هدوء عميق وكان ما يشغله هو كتاب سوف يعطيه صديقه لينشره إن رآى فيها ما يستحق أن ينشر، هوذا يزفر في كتابه حياة قلم ويقول “ هو الموت إذن كما استقر في خلدي بلا أثر ولا خبر، وهو الموت إذن أمضي إليه صفر اليدين من مجد الأدب ومن مجد الدنيا ومن كل مجد يبقى بعد ذويه” غير أن العقاد وفي غمرة هذه الغاشية كان يفكّر في تصنيف كتاب من وحي ما بدأ يشعر به، وهو الشعور بالنهاية وقرب الأجل، وعدل عن هذه الفكرة بعدما خفّ ضغط الفكرة عليه ثم بدأت تلاشى حتى اختفت. في كتابه «حكاية الرجل الذي أحب الكناري “ قال بسّام حجار أعلم جيدًا أنني ذات يوم لن أفلح في استبقاء الصورة تحت جفنيّ المطبقين. وأنني ذات يوم سأتوقف في لحظة ما عن سماع أنفاسي والصفير الخافت الذي يرافق كل شهيق كأنه يصدر من قربة مثقوبة” ها هي نبوءة الموت تتنزّل على حجار وتخبره بأنك ميّت يوما ما، فقم “ فاغتم صفو الحياة إنما العيش اختلاس”.
جمعت بعض الكتب والأبحاث المتعلقة بأولئك الذين انتحروا و اختاروا مواجهة الموت في وقت مبكر على البقاء ومغالبة كبد الحياة، وقررت أن أعرف عن قرب ما يكون هذا الشعور بالنهاية، فوجدتني أمام جبل من الكتب تخبر عن هذه التجربة، لكنّه، ويا للأسف، ليس قارئا يحاول الاستشعار كمجرب خاض الغمار. لا أحد منا يعلم ما كنه الموت، ولكني لم أنظر له يوما على أنه خلية حية فسدت وخمدت وجسد تعطّل فتيبّس، بل على أنه عين انفتحت بعد العشى وروح أبصرت بعد العماء. هو خيط الإشعاع يخرج من كوّة الظلام فنمشي نحوه مشدوهين مشوقين لنزهتنا الطويلة في الضفة الأخرى. “زيدوني نورًا .. زيدوني نورًا” آخر الكلمات التي انطلقت مع زفرات جوته الأخيرة وهو يتخلّى عن ضيق هذا العالم ليذوب في الأبد. “وليت عندي من القوة ما يمكنني من تحريك القلم لأشرح سهولة الموت ولذته” هي نفثة العالِم الكبير وليم هنتر. قد كان لي ولع قديم ما زال يستفحل حتى الآن، وهو ملاحظة النفوس الكبيرة وهي تصعّد الأنفاس الأخيرة ثم تسلم الروح بهدوء. تتبعت أحوال المئة وخمسين شاعرًا جردوا الموت من ثوبه الراعب و اختاروا الموت على الحياة وانتحروا، جمعتهم جمانة حداد في كتابها “سيجئ الملوت وستكون له عيناك” سر الافتتان بهذه ا للحظات الأخيرة هي أنها الإطلالة النهائية على حياة كثيفة تصاحبها كلمات مركزة شارحة لأشواق صاحبها الروحيّة. فمحمد إقبال يتغنى بنسيم الحجاز متذكرًا الديار التي طالما هفى له فؤاده. ويتلطف الشيخ رشيد رضا مع شيخه محمد عبده فيخبره أنه ما عهده بهذا الضعف فيردّ عليه بأبيات المشهورة “ ولست أبالي أن يقال محمد** أبلّ أم اكتظت عليه المآتم. ولكنه دين أردت صلاحه** أحاذر أن تقضي عليه العمائم”
فهي أيام معدودة إذن نقضيها في الدورة الأرضية، ستكون مضاءة بأنوار الموت لو أدركنا أنه يكمّل لنا المعاني، وستكون باهتة ضيقة لو مضينا في النسيان، نسيان الموت.
** **
- د. معتصم الهقاص