عندما تتصدى للكتابة عن شخص عرفته منذ مدة طويلة، فإنك بحاجة إلى الضغط على الذاكرة واستدعاء الذكريات والمواقف، مع الاطلاع على شيء من إنتاجه العلمي كي تتكوّن لديك صورة واضحة عن الشخصية في أكثر من مجال، ولكن الأمر على أي حال ليس أمرًا هيّنًا.
ولقد سعدت غاية السعادة باعتزام جريدة الجزيرة تخصيص ملف عن شيخنا وأستاذنا العزيز الدكتور محمد بن علي الصامل بمتابعة من الزميلين الكريمين: د. إبراهيم التركي، ود. سامي العجلان، والأخير أحد تلاميذ الدكتور الصامل الأوفياء وهو صاحب المبادرة، فله وللدكتور التركي الشكر والتقدير على هذا العمل الجليل الذي يؤكد الترابط العلمي والإنساني بين الأجيال.
والحديث عن الصديق الدكتور محمد الصامل يستدعي الحديث كذلك عن رفيق دربه وزميله القريب إلى قلبه الصديق الدكتور عبدالله بن صالح العريني، فهما متلازمان، وأذكر أنني تعرفت عليهما في حدود عام 1412هـ في مناسبة ثقافية، فارتحت لهما وأنست لطيب معشرهما وحسن أخلاقهما، فبدأت الصلة معهما بالمشاركة معي في بعض البرامج الإذاعية، ثم وجّهت لهما الدعوة للمشاركة في صفحات «إبداع» بجريدة المسائية، وهي صفحات ثقافية تُنشر كل ثلاثاء، فاستجابا مشكورين، واختار الدكتور العريني أن تكون زاويته تحت عنوان «حرف يتوهج بالمعنى»، واختار الدكتور محمد الصامل أن تكون زاويته تحت عنوان «إيماءة»، واتفقت معهما على أن تظهر الزاويتان بالتناوب؛ تخفيفًا عليهما من أعباء الكتابة الأسبوعية، وليصبح الالتزام حلقتين كل شهر فقط، من أجل ترغيبهما في الكتابة المنتظمة في الجريدة.
وقد نُشرت الحلقة الأولى من زاوية الدكتور محمد الصامل «إيماءة» في العدد 4176، 21 /6 /1416هـ (14 /11 /1995م)، ووضع عنوانًا فرعيًا لها، وهو «وقفة مع العنوان والتزام الكتابة»، وكشف أسباب استجابته للكتابة حين قال: «كنت مثقل الأعباء بأعمال إدارية علمية استغرقت جلّ وقتي وطاقتي، فخفّف الله عني بعضها»، وأضاف: «المشرف على «إبداع» لم يكلّفني عنتًا بل حوّل الأمر ميسورًا مقدورًا عليه، فكان الاتفاق على أن تتناوب على هذه المساحة زاويتان إذا توارت إحداهما ظهرت الأخرى». ولم نكتفِ بأن يكون اللقاء على الورق عبر جريدة المسائية، بل ظهرت فكرة لقاء شهري في منازلنا، آخر أربعاء بعد المغرب، وانضم إلينا بعض من كان يكتب كذلك في الجريدة، ومن غيرهم، وربما بدأت اللقاءات هذه في عام 1417هـ، ومن الحضور الدائمين فيها: الدكتور محمد بن سليمان السديس رحمه الله، والدكتور محمد بن علي الصامل، والدكتور عبدالله بن صالح العريني، والدكتور عبدالله بن حمد الدايل، وابن العم الدكتور حمد بن إبراهيم الحيدري، والزميل الدكتور عبدالرحمن بن إبراهيم العتل، وكان الأكبر سنًا الدكتور السديس رحمه الله (درّسني وزميلي العتل في جامعة الملك سعود)، وأصغرنا: العتل وكاتب هذه السطور، وهما مولودان في سنة واحدة!
ومع قصر الوقت (بين المغرب والعشاء)، فإنه كان لقاء ممتعًا نترقبه كل شهر، ففيه الجد والهزل، وفيه تثار قضايا شرعية ونحوية وبلاغية وأدبية ونقدية؛ نظرًا لتعدد تخصصات المجتمعين، وكانت الفوائد كثيرة لي تحديدًا إذ كلهم من الحاصلين على الدكتوراه، ما عدا الزميل العتل الذي كان مثلي في طور التسجيل لأطروحة الدكتوراه.
وقد استمرت هذه اللقاءات البيتيّة نحو سبع سنوات، ثم انشغل كل منا بأعمال وأعباء صرفته عن هذه اللقاءات الجميلة التي تحنّ إليها النفس كلما تذكرت ما دار فيها من نقاش جاد أو مزاح وتسلية. وبالاطلاع على مقال الزميل الدكتور عبدالرحمن العتل «مع السديس.. مواقف وذكريات» المنشور في جريدة الجزيرة عام 1436هـ رثاءً لأستاذنا الدكتور محمد السديس رحمه الله، وجدت إشارة وحديثًا عن هذه اللقاءات والمشاركين فيها.
ثم مضت السنوات سريعة فالتقيت بالدكتور محمد الصامل في كلية اللغة العربية بالرياض التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بعد انتقال عملي إليها أواخر عام 1426هـ، وأصبحنا نلتقي في بعض المناسبات في الكلية أو الجامعة، وكان أبو علي شعلة من النشاط، ونموذجًا لافتًا في العمل الدؤوب المخلص المنتج، وبخاصة عندما تولى عمادة كلية اللغة العربية ورئاسة مجلس إدارة الجمعية العلمية السعودية للغة العربية في دورتها الثانية (1426ـ1429هـ)، فظهر على يديه منجزات للجمعية لم يستطع من قبله ولا من بعده أن يحقّق مثلها، وهذه أمور يعرفها الزملاء أعضاء الجمعية تمام المعرفة. ويكشف الكتاب الوثائقي الصادر عن كلية اللغة العربية عام (1438هـ/2017م)، وعنوانه «جهود أساتذة كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في خدمة المجتمع» عن نشاط كبير للدكتور محمد بن علي الصامل في خدمة المجتمع خارج الجامعة، إذ شارك في تأليف كتابي البلاغة والنقد للمرحلة الثانوية للسنتين الثانية والثالثة قسم العلوم الشرعية والعربية بتكليف من وزارة التربية والتعليم (التعليم حاليًا)، وعمل مستشاراً غير متفرغ لمجلة الأمن وملحقها اللذين يصدران عن وزارة الداخلية، من 2 /3 /1413هـ حتى 1 /7 /1433هـ، وعمل مستشاراً في مجال تعليم اللغة العربية في شركة عالم التمهير (شركة غير ربحية) من شهر رجب عام 1437هـ وحتى تاريخه، وشارك في لجنة المشورة لصالح المهرجان الوطني للتراث والثقافة، وعمل مديراً تنفيذياً للمعهد العربي للغة العربية (عربي) من 22 /8 /1435هـ حتى جمادى الأولى عام 1436هـ. وللدكتور محمد بن علي الصامل إسهام واسع في مجال الأعمال الخيرية إذ هو عضو لجنة الدعوة في أفريقيا التي يرأسها صاحب السمو الأمير الدكتور بندر بن سلمان بن محمد آل سعود منذ عام 1413هـ وحتى تاريخه، وعضو مجلس إدارة مكتب الدعوة وتوعية الجاليات في المعذر وأم الحمام بمدينة الرياض من عام 1424هـ إلى 1429هـ، وسبق له العمل نائباُ للأمين العام لجمعية البر الخيرية بالرياض من 15 /3 /1434هـ إلى 30 /5 /1435هـ .
وله مشاركات ثريّة في إعداد البرامج الإذاعية والتلفازية وتقديمها إذ أعد وقدم برنامج «بلاغة المتشابه اللفظي في القرآن الكريم» لإذاعة القرآن الكريم ابتداءً من 6 /1 /1417هـ وحتى 30 /12 /1419هـ، وشارك في برنامج «ورقات» الأسبوعي في إذاعة القرآن الكريم ابتداء من شهر المحرم 1429هـ إلى نهاية عام 1431هـ، وأعد وقدم برنامج «غرر البلاغة» في قناة المجد العلمية أسبوعياً بدءاً من شهر المحرم 1429هـ لمدة عام.
وربما من أبرز أعمال الدكتور الصامل في خدمة المجتمع، عمله البارز في الذكرى المئوية لتأسيس المملكة عام 1419هـ/1998م، وعليه استحق وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى عام 1420هـ/1999م، وهو أعلى وسام تمنحه الدولة. وأختم هذه المقالة الموجزة عن أستاذنا وصديقنا الدكتور محمد الصامل بوقفة على أول كتاب طُبع له عام 1401هـ/1981م، وهو «شعر الدعوة الإسلامية في العصر العباسي الثالث» بالاشتراك مع د. عبدالله بن صالح العريني، وهو بحث التخرج، وأعداه بإشراف الدكتور عبدالرحمن رأفت الباشا رحمه الله، وكان عمر الدكتور الصامل وقتها في حدود الخامسة والعشرين تقريبًا، وهو أول محاولة في التأليف، وتكشف عن جدية وطموح كبير إذ نقف في حواشي الكتاب على مراجع كثيرة جدًا، وعلى دقة في تنظيم المعلومات، وعلى لغة سليمة مشرقة، وعلى بصر بالشعر ومعانيه وأغراضه وطرق تصنيفه؛ مما أهله وزميله العريني للحصول فيما بعد على أعلى الدرجات العلمية في مجال اللغة العربية وآدابها، وأن ينهضا بمهمة التدريس الجامعي، وبمهمة الإرشاد والإشراف والمناقشة للعديد من الرسائل في الجامعات السعودية.
وبعد، فالحديث عن صديقنا وشيخنا الدكتور محمد الصامل ثري وممتع ومتشعب؛ ولكن هذا الملف سيكشف الكثير عن شخصيته ومنجزاته وأعماله الجليلة أطال الله في عمره.
** **
- د. عبدالله بن عبدالرحمن الحيدري