علي الخزيم
لم يأنف مقدم البرنامج الاجتماعي المتلفز أن يتوجه للمخبز الذي يعمل به والده ليجري معه لقاءً بعد أن عبَّر لوالده عن فخره به واعتزازه بمهنته، وقدم له على الملأ أسمى عبارات الشكر والعرفان على ما بذله والده لتوفير الراحة والعيش الكريم وتيسير سبل التعلم الجيد له ولإخوته بقدر المستطاع من خلال مهنته الشريفة، كما عبر الوالد المكافح عن فخره بصناعته ومهنته التي خدم عبرها أسرته والمجتمع من حوله، كما أكد أنه يفتخر بابنه وسعادته بما وصل إليه أبناؤه من مستوى تعليمي، ودعا إلى عدم التقليل من أي مهنة شريفة وأن الإخلاص بالعمل مدعاة للبركة بعون الله.
مثال آخر ينبض بالثقة بالذات والنفس وذلك بميدان فعاليات الجنادرية فقد كان الموظف يصطحب عدداً من الزوار بين أجنحة العرض وحين وصلوا أمام رجل مسن يعرض مراحل مهنة الخرازة اليدوية القديمة بمنتجات الجلود؛ سلم عليه باهتمام ووقار، ثم قال لمرافقيه: هذا الوالد حفظه الله! لم يستنكف أن يقف أمام الزوار يُحَيِّي أباه الحرفي، ولم يشعر أنها حرفة دونية طالما أنها لا تمس له شرفاً ولا سمعةً ولا تَصِمُه بأي نقيصة، فما كان من الزوار إلا أن أقبلوا على والده الخراز يحيونه ويوقرونه مقدرين مثابرته على مهنته التي تُعبِّر عن اهتمامه بما كان عليه الأجداد، ومدى حرصه على المحافظة عليها من الاندثار، كما لاحظت أنهم أكبروا بالابن اعتزازه بأبيه الذي قام على تربيته والصرف عليه من دخل هذه المهنة التي قد يرى البعض أنها لا تناسب العصر، فيما يراها آخرون ضرباً من صناعة التحف والنوادر ويقتنون منتجاتها للزينة وتجميل متاحفهم الخاصة.
مسؤول سابق كان يشغل إدارة مرموقة للإعلام والصحافة والعلاقات العامة حدثني أنه حينما كان فتىً يدرس بمراحل الدراسة الأولى، وكانت الكهرباء تُعَدّ حديثة ببلدتهم؛ كان والده يتذمر من سهره تحت المصباح إلى منتصف الليل يذاكر دروسه، بزعم أنه يخسرهم ريالات دون جدوى، ويُذكِّره بأن ابن صديقه فلان يجلب لوالده ريالات من عمله اليومي حرفياً بدل أن يُخَسِّر والده من جراء الدراسة التي لن تفيده شيئاً على حد فهمه، يروي الحكاية ودموعه تفيض من الدمع مترحماً على والده الذي قاس الأمور بمقياسه الخاص باحترام العمل والمهنة، وبمنطق لقمة العيش في يومه وليلته، دون التفات لطموحات ابنه المتطلع للمستقبل وقد تحقق، ومع ذلك فإن الابن يتحدث بكل ثقة معتزاً بفكر والده رغم محدوديته باحثاً له عن مبررات جميلة، وذكريات عزيزة ترسم ملامح البر والوفاء، ومتسلحاً بالثقة بالنفس التي منحته - بعون الله - قوة تجاوز بها حواجز الفشل.
فمن المؤكد أن ثقة المرء بنفسه من أهم العوامل التي تؤهله لإدارة شؤونه وتوزيع واستثمار طاقته وفكره لخدمة أغراضه وطموحاته، وحسن التعامل مع المستجدات بحياته، ويتحلى الواثق من نفسه وإمكاناته بملكات وخصال تضفي على شخصيته الاجتماعية علامات النباهة والقيادة، وقد يلمسها ذووه فيه منذ الصغر.