الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
يتميز منهج السلف بقدرته على مواجهة القضايا الفكرية و»النوازل» الفقهية بمنهجية إسلامية ملتزمة بالثوابت الأصيلة، ومتحررة من قيود التقليد التي أدت إلى الجمود.
ولاشك أن مدرسة السلف هي المدرسة الأصيلة الجديرة بأن تكون النموذج الأسمى في الفهم والاجتهاد والتأصيل، والابتعاد عن الانحرافات في مجال التأويل.
«الجزيرة» ناقشت مع اثنين من أصحاب الفضيلة، الكيفية في إيجاد سلفية حقيقية واعية منفتحة؛ تنطلق من منطلق الشرعية وتراعي المصالح المعتبرة التي جاءت الشريعة لإقرارها وتنظيمها بعيدة عن الجمود والتحجر وتقوم بدور التصحيح لكل انحراف، وتشجيع الرأي والاجتهاد الأصيل.. وكانت رؤيتهما كالتالي:
التواؤم والتأقلم
بداية يقول الدكتور بدر بن محمد المعيقل -عميد كلية الشريعة بجامعة الجوف سابقًا: جاء هذا الدين العظيم الرباني صالحًا بلا ريب لكل زمان ومكان، هذه الصلاحية يؤكدها الواقع العملي التطبيقي على تعاقب الأزمنة والعصور، ولا شك أن ما تميز به هذا الدين العظيم من قدرة على التواؤم والتأقلم مع جميع الظروف وجميع المستجدات دون أدنى إشكالية فيه، من أعظم الدلائل على أنه تنزيل من حكيم حميد وأنه هو الدين المرضي عند الله، وما عداه فخلاف ذلك، ولعل ما يُعرف «بفقه النوازل» وهو باب من أبواب الاجتهاد الذي هو أحد مصادر التشريع في هذا الدين، أحد الأدلة الدافعة على عظم واتّساع دين الإسلام لاستيعاب كل ما يتوافق مع ثوابته وقواعده وأصوله، وفي هذا ردٌّ دافع على كل من يتهم هذا الدين الرباني بالجمود أو عدم المواءمة والمواكبة للعصر، أو غيرها من الدعاوى، «والدعاوى مالم يكُن لها بيّناتٌ* أصحابها أدعياءُ».
ولعل تقسيم النوازل لدى الفقهاء والعلماء المجتهدين إلى أنواع باعتبارات متعددة، وسواء بالنظر إلى الأفراد والتركيب أو بالنظر إلى الرجل والمرأة، أو بالنظر إلى أبواب الفقه، دليلٌ على رد تلك الدعاوى وكسر تلك الشبهات.
خصوصية المملكة
ويؤكد الدكتور بدر المعيقل أننا نعيش -ولله الحمد- في دولة تجعل من تعاليم الاسلام تشريعًا لها، ومن كلمة التوحيد شعارًا لها، ومن خدمة الحرمين لقبًا لوليّ أمرها، وفيها من جهابذة العلماء الأكابر الذين خبروا هذا العلم وسبروا غوره، بحيث يخرج الحكم الشرعي في النازلة متوائمًا مع قواعد الشريعة، وكل ذلك لا يتأتّى إلا من خلال: التجرد، والإخلاص لله في ذلك، والإلحاح في الدعاء وطلب الفتح من الله بالرشاد والصواب، وتصوّر النازلة تصورًا كاملًا من جميع أطرافها وجمع شتات مسائلها، ومن ثم تحليلها إلى عناصر، وتكييفها فقهيًا ثم عرض النازلة على أدلة الكتاب والسنة والإجماع ثم أقوال الصحابة وأفعالهم، ثم البحث عن حكمها في اجتهادات أئمة المذاهب الأربعة أو القياس عليها، ونحسب أن علماءنا، مفتيًا، وهيئة كبار العلماء، من أعلم الناس بكل ما تقدم ذكره.
خصائص المنهج
ويشير الشيخ محمد بن عبدالعزيز المطرودي -عضو الدعوة والإرشاد- إلى أن موضوع السلف والسلفية ليس من الموضوعات المعقدة كما يدعي بعضهم، نظرًا لكثرة من يقول عن نفسه أنه سلفي ثم لا يتمثل في منهجيته اعتبارًا لطريقة السلف، في عقائدهم، وفتاواهم، وأخلاقهم، ولفظة السلفية مصدر صناعي من السلف، والمادة الثلاثية «س ل ف»، أصل يدل على من تقدم وسبق، ومن ذلك السلف: الذين مضوا، والقوم السُّلاف: المتقدمون، هكذا قال ابن فارس، واستعملت اللفظة في القرآن لذات المعنى، كما قال تعالى: (فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين) أي: سابقين.
أما من حيث المفهوم الشرعي فغالباً ما يرد معنى السلف في كتب العقائد في بيان طريقة الصحابة وهديهم بالأصالة، ويتبعهم من حذا حذوهم من القرون التالية، ففهم الصحابة -رضوان الله عليهم-، وما أجمعوا عليه هو معيار في هذا الاتجاه أمام فرق منحرفة وجدت في القرون المفضلة كالخوارج والقدرية والجهمية والرافضة، والمراد بالسلف: إجماع السلف لا آحاد أقوالهم، كما روى أبو داود عن إمامنا أحمد بن حنبل أنه قال:
(الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن أصحابه، وهو بعد في التابعين مخير)، وأعظم خصائص هذا المنهج في الأصول: أولاً: التوحيد وهي قضايا الإيمان والكفر والأسماء والصفات والقضاء والقدر واليوم الآخر وبقية أركان الإيمان، وبعض التفصيلات والترجيحات التي دوّنها شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية، والإمام محمد بن عبدالوهاب في كتاب التوحيد، وهي كما لا يخفى نصوص من القرآن والسنة فحسب، ثانياً: النص على اتباع نصوص الكتاب والسنة، وهذا يعني باللازم عدم إحداث البدعة، وثالثاً: إصلاح النفس بالأعمال الصالحات، في عموم الطاعات والأوراد والأذكار، وهذه الأصول لها قواعد كالاستدلال بالكتاب والسنة في جميع القضايا العقائدية، والفقهية، والأخلاقية؛ كمرجع أصلي، والاستهداء بفهم الصحابة والتابعين ممن التزم هدي الصحابة، وأن الكتاب والسنة هما الميزان للأقوال والأعمال والاعتقادات، كما أنهم يستعملون الأدلة المنطقية، والقياسات العقلية، المستنبطة من الكتاب والسنة، مما يعني نفي التعارض بين الأدلة الشرعية الثابتة، سواء كانت عقلية أو نقلية، كما يؤكدون على عدم معارضة الوحي بعقل أو قياس أو رأي، ويقبلون أخبار الآحاد ويعملون بها في العقائد والأحكام من دون اسستثناء، ومن أهم خصائص المنهجية السلفية نبذ الجمود الفكري، والتعصب المذهبي، وهذا ظاهر في كل الطبقات التاريخية للسلف بدءًا من الصحابة -رضوان الله عليهم-، الذين صفت ضمائرهم وأرواحهم من ذلك المفهوم المنتشر بين العرب وبعث النبي عليه السلام لتصحيحه، وهو الجمود على عقيدة الآباء والأجداد كما قال تعالى :(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ)، ثم طبقة أهل الحديث كالأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والثوري، وابن مهدي، وابن المبارك، وإسحاق، والبخاري، والدرامي، ومن بعدهم حتى عصر ابن تيمية الذي كتب أكبر موسوعة علمية دقيقة لمنهجية السلف أمام تغول المذاهب والفرق، ثم دعوة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب.
تحرير الإنسان
واستطرد المطرودي في حديثه متسائلاً: ما القاسم المشترك بين هذه الطبقات إضافة لما سبق؟ الجواب بوضوح أنهم متسامون عن التقليد والتعصب، والجمود الفكري، ويعذرون بالجهل والتأويل، وهذه المنهجية جعلتهم في مجابهة علنية مع أولئك الذين أدخلوا في الإسلام عقائد وشرائع وأفكاراً لا تمثل أصوله ولا روحه، من الخرافات، وشرك الأضرحة، فالمفهوم السلفي يحرر الإنسان من العبودية لتلك الآراء والأفكار والعقائد التي تمسك بها أقوام، وظنوا أنها تقربهم إلى الله زلفى، وهي باب من أبواب الضلالة، هذا في باب العقائد والشرائع، ولكنه في باب الشرائع أوسع لما فيه سعة وتنوع في الآراء والمذاهب الفقهية، أو الفتوى بمعنى أدق لأنها تعتمد قواعد الاستدلال والنظر، فإلى سنة 310هـ كان هناك ثلاث عشرة مدرسة فقهية كلهم على منهاج السلف، متفقون في العقائد متنوعون في الفتوى الفقهية، ثم اشتهرت المدارس الفقهية الأربع لأسباب ليس هذا محل بسطها، فلولا أن هؤلاء الأئمة كانوا على درجة من الاجتهاد والتجديد وسعة النظر لما وجدت هذه الخزانة العلمية التي تدل على رسوخ التجديد في منهجهم ونبذ الجمود والتطرف الفقهي، فهذه المذاهب الفقهية المتنوعة في فتاواها فيها سعة للمسلمين، ورفع للحرج عنهم، وجمع لقلوبهم، ومناسبة لظروفهم، وما يمر بهم أحوال وتغير الأزمنة والأمكنة، وما هذا إلا منهاج الصحابة -رضوان الله عليهم-، الذين اختلفت فتاواهم، وأجمعت قلوبهم على الإيمان، ومنذ أسس الملك عبدالعزيز هذه الدولة المباركة التي تصرح بأنها على عقيدة السلف الصالح التي تراعي الاجتهاد وتنبذ التقليد، وتحترم المذاهب الفقهية، وهذه هي السعة التي تجعل مقام الأخوة الإسلامية فوق مقام المذهب الرأي، بدليل أن الدولة السعودية ليس من أجندتها تصدير مذهبها وتغيير مذاهب المسلمين كما تفعل إيران على سبيل المثال، وجدير أن أذكر هنا ما كان يوجد في المسجد الحرام لما دخلت مكة تحت السيادة السعودية فكان لكل مذهب إمام يصلي بأتباع مذهبه، فكانت فوضى لا يفتي بها أحد من مجتهدي المذاهب، فضلاً عن كبار الأئمة، فجعل الملك عبدالعزيز إماماً واحداً لكل فريضة، وصلى خلفهم جميعاً، حتى لا يتهم بتعصبه للإمام الحنبلي، وانتهت فوضى لا تمثل إلا الوجه الأسود للغلو والتطرف في الرأي، والجمود العقلي والفقهي، وقال الملك عبدالعزيز مقالته الشهيرة: (يسموننا بالوهابيين، باعتبار أنه مذهب جديد، ولم يأت محمد بن عبدالوهاببالجديد، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله، وماكان عليه السلف الصالح)، وبالمناسبة يمكن الإشارة هنا إلى كلام العقاد عن هذه الدعوة السلفية وأن صيحة ابن عبدالوهاب لم تذهب عبثاً في الجزيرة العربية ولا في أرجاء العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه، وأن يستجدوا ما فاتهم باجتناب البدع والعودة إلى دين السلف الصالح في جوهره ولبابه، هذا كلام العقاد ولم يكن متأثراً بشكل مباشر بدعوة الإمام محمد، أما طه حسين فيقول:.. لأنه ليس إلا الدعوة القويمة للإسلام الخالص النقي، المطهر من شوائب الشرك والوثنية، ومعلوم أن طه حسين لم يكن متأثرًا بالدعوة الإصلاحية بشكل مباشر، تعتمدت إيراد هذا كتحليل ودليل من خارج المدرسة الإصلاحية السلفية حتى تتجلى المسألة لمن يقول إننا نمجد طريقتنا!
وبيّن الداعية المطرودي أننا اليوم يفد ملايين الحجاج إلى مكة المكرمة ولا نعاملهم في دولتنا على أساس الانتماء المذهبي، وإنما على مقام الأخوة الإسلامية، والتآلف، والمحبة، وهناك اجتماع سنوي يعقده خادم الحرمين مع علماء العالم الإسلامي وهم بطبيعة الحال ليسوا من الحنابلة، بل أغلبهم علماء ومجتهدون في مذاهبهم، وأيضاً في برنامج خادم الحرمين الشريفين للحج والعمرة يستضافون باعتبارهم من المسلمين الذين لهم مقام الأخوة، وحبل الإيمان، وليس على تصنيف مذهبي، فتأمل هذا، فما هذه إلا السلفية في صفاء أهدافها، ونقاء مقصدها، وعلو شأنها، وتمثلها لأصول مذهب الصحابة كما قال ابن تيمية: (من كان له خبرة بالنظريات والعقليات وبالعمليات علم أن مذهب الصحابة دائماً أرجح من قول من بعدهم، وأنه لا يبتدع أحد قولاً في الإسلام إلا كان خطأ، وكان الصواب قد سبق إليه من قبله)، ولا يخفى ما قام به ابن تيمية من إصلاح كبير في البناء النظري والعملي للمدرسة السلفية، والذي يشير بمجمله إلى أهمية تكامل البناء المعرفي للعالم، بأن يمتلك كل الأدوات المعرفية، ومنها اللغوية، والاجتماعية، والعلوم الإنسانية عموما مما يعني وجود ملكة علمية ونفسية مكتملة تؤهله للنظر والاجتهاد، وكلما وجد النقص المعرفي نتج عنه الجمود والتعصب والفاقة النفسية بحسب ما نقص من عقله وعلمه، وهو السبب وراء كثير من الفوضى التي يعيشها كثير من الناس والأحزاب، التي أنهكت نفسها، وجلبت الحرج للأمة، والإصلاح المعرفي ينبغي أن يستمر من خلال النظر والاجتهاد البعيد عن التعصب والهوى، خاصة مع البعد الزمني عن القرون المفضلة، وكثرة السجالات الكلامية، واستدعاء الخصومات التاريخية، التي لا تراعي التحديات الزمانية والمكانية التي يعيشها المسلمون اليوم، وأن يكون الاشتغال بنشر أصول الإسلام، ومحكماته الشريعة، وجمع كلمة المسلمين، وليس امتحانهم والتضييق عليهم بأراء محدودة، وإنما توزن الأمور بميزان العلم، وأصل العدل، والرحمة، فالتركيز على أصول الإسلام، وأركان الإيمان، والقيم، هو النور الذي تهدى به النفوس، وتجتمع عليه وبه كلمة المسلمين خاصة إذا جنب صراع الأفكار والأحزاب التي تشوه الإسلام، وتحتكر الصواب لنفسها، بينما الإسلام أوسع منها وأعدل.