د. جاسر الحربش
من أسوأ ما أفرزته الحضارات البدائية القديمة بهدف الترفيه الإلهائي كان صراع الديكة المسلحة بالأمواس أو الجمال المهيجة ضد بعضها بالتجويع والضرب أو صراع الثيران ضد الإنسان، وصراع المجالدين الأرقاء ضد بعضهم وضد الوحوش الجائعة. ولأن غريزة التوحش استمرت كامنة في طبائع الإنسان عبر مسيرته الحضارية والمدنية حتى اليوم حصل الاحتيال لها وعليها، فغلفت الوحشية وقدمت للمستهلك كبضاعة ترفيهية مدفوعة الثمن على شكل مباريات ملاكمة ومصارعات حرة دموية وغير ذلك من مسابقات العنف.
وكان أيضًا من أسوأ ما أفرزته الحضارات البدائية عرض أسرى الحروب من النساء والجواري والغلمان للبيع والشراء عراة مقبلين مدبرين، لكي يتفحص المشتري بضاعته قبل دفع الثمن، وبالتأكيد لإشباع غريزة بدائية أخرى هي الهوس الجنسي. مع المسيرة الحضارية والمدنية البشرية تم كذلك تغليف هذه الغريزة لتقدم كبضاعة مدفوعة الثمن على شكل دعايات جذب للمراقص والملاهي ودور الأزياء ومسابقات ملكات الجمال، إلى آخره.
إذًا هكذا احتال الإنسان المتنكر بملابس الحضارة والتمدن، فنقل معه غريزة إشباع التوحش وغريزة إشباع الجنس عبر الأزمنة وحولها إلى بضائع ومصادر دخل للأفراد والشركات والعصابات والدول.
في الحضارة الغربية الحديثة، وهي التي حولت على نطاق واسع غريزتي التوحش والتجسيد إلى جزء هام من الاقتصادات الوطنية، يعتبر علماء الاجتماع والأخلاق أن أسوأ ما نقله الإنسان معه عبر التطور الحضاري من عصوره البدائية ثلاثة أشياء أصولها جميعًا غرائز بدائية، هي تحويل الحروب إلى تجارة أشد فتكًا وتشويهًا، وتحويل التوحش إلى منافسات تسلية تجارية، وتقديم التجسيد (الاستعراض الجسدي الأنثوي بالذات) إلى مجالات واسعة للتسويق مفتوحة على كل الاحتمالات، بما في ذلك المتاجرة ببنات ونساء الفقراء والهاربات والمتمردات وذوات الشذوذ، لدرجة الاستعباد تمامًا مثلما كان يحصل مع الجواري والإماء من غنائم أسيرات الحروب.
نحن إذًا أمام واقع مدني/ حضاري عالمي يستغل مسمى الحريات الشخصية بدمجها مع إمكانيات برمجة القادر للمقدور عليه بالمال والشهرة، مما جعل علماء الحضارة المسيطرة منذ ثلاثة قرون (الحضارة الغربية) يجزمون بأنها أسوأ إفرازات الحضارة الحديثة وأكثرها امتهانًا للإنسانية وكرامة النفس والجسد.
ما زلت أعتقد أن مجتمعنا السعودي، وهو بأمس الحاجة إلى الترفيه التكاملي المتوازن والتنوير والتنويع الفكري بعد خمسين عامًا من العزلة، سوف يستمر رافضًا لأسوأ إفرازات الحضارة الحديثة، أي تقديم التوحش الغريزي كتسلية مدفوعة الثمن وتقديم التجسيد كجزء من اقتصاد الأزياء والتسلية حسب العرض والطلب.لأن بوادر العدوى بدأت تلوح في الأفق يتوجب النقاش المفتوح حول التعامل معها وتحييدها قبل أن تتحول إلى ثقافة.