د. عيد بن مسعود الجهني
ظل أمر التحكيم دون تنظيم حتى عام 1923م، حيث قامت غرفة التجارة الدولية بباريس بإنشاء محكمة التحكيم التابعة لها، فبذلت الغرفة مساعي لدى عصبة الأمم في تلك الفترة من التاريخ بقصد الوصول إلى اتفاقية دولية للاعتراف بالتحكيم وقد تم بالفعل التوقيع على أول بروتوكول في جنيف في 24 سبتمبر سنة 1923م ثم تلاه اتفاقية جنيف عام 1927 في شأن تنفيذ الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها، وبقي حال التحكيم على ما هو مروراً بأزمة الكساد الاقتصادي العالمي عام 1929 - 1933 وما تبعه من هبوب عاصفة الحرب الكونية المدمرة 1939 - 1945م.
ومع تأسيس الأمم المتحدة شهد العالم تحولاً في نطاق وحجم المعاملات الدولية بعد أن تحرّرت مستعمرات عديدة وزاد عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة نتيجة لظهور دول العالم الثالث ودول المعسكر الاشتراكي قبل انهيار الشيوعية والذي نتج عنه ظهور نموذج جديد من العلاقات بين الشرق والغرب وتزايد النمو والتطور التكنولوجي.
لذا أصبح من الضروري وضع اتفاقية تحل محل بروتوكول جنيف لعام 1923م واتفاقية جنيف لعام 1927م لمسايرة التطورات الجديدة في التجارة والمعاملات الدولية وجاءت الدعوة من خلال المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع لهيئة الأمم المتحدة لتحديث القواعد المتعلّقة بالتحكيم لتكون أكثر استجابة للاحتياجات الجديدة.
وقد جاءت الفرصة لدراسة هذا الموضوع الهام بمناسبة مناقشة المشروع الذي قدمته غرفة التجارة الدولية بباريس عام 1952م، حيث اقترحت تنظيماً جديداً يكفل لاتفاقات وإحكام التحكيم أكبر قدر من المرونة والتطور فيكون خضوعهما لراقبة القضاء الوطني في مختلف الدول في أضيق نطاق ممكن، وانتهى الرأي بأن تقوم الأمم المتحدة بالدعوة إلى مؤتمر دولي عالمي لمناقشة وضع وإقرار اتفاقية دولية جديدة تحل محل اتفاقية وبروتوكول جنيف اللذين أصبحا من مخلفات الماضي بعد أن تجاوزتهما الأحداث إزاء التطورات الهامة التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية من نمو وتطور في المعاملات التجارية والتصنيع والتبادل التكنولوجي ..إلخ وانعقد المؤتمر في نيويورك في الفترة مابين 20 مايو - 10 يونيو 1958م وحضره ممثّلون عن ست وأربعين دولة انتهى إلى توقيع الاتفاقية الدولية المعروفة باسم اتفاقية نيويورك المتعلّقة بالاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها.
ونظراً للأهمية البالغة للتحكيم في عالم اليوم قامت الدول بتنظيم التحكيم ووضعت له القواعد والشروط والنصوص الواجبة لنظر النزاعات وطريقة تنفيذ أحكام المحكمين وذلك خدمة للتجارة ودفعاً لعجلة الاقتصاد ملبية حاجة المؤسسات والشركات ورجال الأعمال والأفراد من أن يتمكنوا من اختيار قاضيهم بعيداً عن الوسائل القانونية المتشابكة فيتقبل المتخاصم قاضيه ويطمئن إلى ما ينتهي إليه بحكمه.
وقد كان من نتيجة ذلك أن ظهرت مؤسسات دولية متخصصة في مجال التحكيم تقدم خدماتها لمن يطلبها، نلمس هذا في تعدد هيئات التحكيم في مختلف أنحاء العالم، منها ما نشأ في إطار منظمة الأمم المتحدة أو خارج هذا الإطار كما نلمس هذا في كثرة المعاهدات الدولية التي أبرمت في هذا الصدد إلى جانب القواعد القانونية الجديدة التي تنظّم التحكيم الدولي ومن هذه المؤسسات محكمة التحكيم التابعة للغرفة التجارية بباريس وجمعية التحكيم الأمريكية ومحكمة تحكيم لندن والمؤسسة الهولندية للتحكيم وغيرها من هيئات ومراكز التحكيم.
ونظراً لتنامي أهمية ودور التحكيم التجاري الدولي في التجارة الدولية فقد دعت جامعة الدول العربية إلى توحيد هيئات التحكيم العربية ودعم التعاون بينها، لتشجيع الاستثمار والتجارة بين الدول العربية والعمل على أن يتولى الفصل في قضايا التحكيم العربية محكمون عرب مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة والعلم على المستوى الدولي.
ولا شك أن دور العرب في التجارة الدولية يقتضي وجود محكمين عرب دوليين ورؤساء عرب لهيئات التحكيم، وذلك لتأكيد الشخصية العربية على المستوى الدولي، وحماية المصالح الاقتصادية العربية ووجود محكمين عرب على مستوى دولي رفيع يتفهمون القواعد العرفية في التجارة المستقرة في العالم العربي.
وهناك خلاف فقهي حول جواز النص في العقد على شرط التحكيم من عدمه باعتبار أن السلطة القضائية في الدولة هي صاحبة الولاية في القضاء إلا أن أغلبية الفقهاء لا يرون في ذلك خروجاً على سلطة الدولة، بل أن ذلك يقلّل من أوجه الخلاف ويبقى على علاقة الود بين طرفي العقد.
اليوم تزايد التنظيم القانوني للتحكيم الأجنبي زيادة كبيرة تبعاً لازدياد المعاملات الدولية واتساع نطاقها، ونتيجة لذلك اتجهت بعض الدول إلى تنظيم الإجراءات الواجب اتباعها فيما يتعلّق بعقود التجارة الدولية، وفي فرنسا أجاز القضاء إدراج شرط التحكيم في عقود التجارة الدولية، وإذا كان الالتجاء إلى التحكيم هو نتيجة لمبدأ سلطان الإرادة فإن المتعاقدين يستطيعون اختيار المحكم أو المحكمين والالتزام بإجراءات معينة تتبع حتى يصدر قرار المحكم إلا أنه نظراً لوجود محاكم التحكيم الدولية فإن العادة قد جرت على اللجوء إلى محكمة تحكيم معينة.
وإذا كان مرد الالتجاء إلى التحكيم هو الإرادة الخاصة بالمتعاقدين، إلا أنه كثيراً ما يفرض التحكيم جبراً على أطراف التجارة الدولية، كما هو الحال في العقود الدولية ذات الشكل النموذجي التي تحتوي غالبيتها على شرط التحكيم في العلاقات بين الدول والشركات الأجنبية الخاصة وكذلك بالنسبة للمعاملات التجارية الدولية الخاصة بالاستثمارات بين الدول ورعايا الدول الأخرى، وهناك اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول المضيفة للاستثمارات وبين مواطني الدول الأخرى المتعاقدة المعروفة باسم اتفاقية البنك الدولي، أو اتفاقية واشنطن لعام 1965م.
والله ولي التوفيق،،،