د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
عانى مجتمعنا، لأسباب عُرفية ومعتقدات دينية متوارثة، عقودًا من الفصل التام بين الجنسين تركزت فيها معظم مفاهيمنا حول الحشمة والعفاف ودرء المنكر حول المرأة فقط دون الرجل. واعتقد الكثير منا أن الفصل الجنسي بعزل المرأة عن أنشطة كثيرة في المجتمع الحل الأنسب للحفاظ على عفاف المجتمع. وهذا اعتقاد انطباعي متوارث بني في معظم جوانبه على التحوط وسد الذرائع فقط، فبقي نصف مجتمعنا تقريبًا معطلاً. ورغم الطفرات التعليمية الهائلة التي حققها مجتمعنا بجنسيه إلا أننا حافظنا على الموروثات الاجتماعية المتعلقة بالمرأة وكأنها مسلمات طبيعية لا نملك تجاوزها، بل واعتبرناها أهم جوانب خصوصيتنا التي نفخر بها. ولم يراع الكثير منا أن المرأة يحكمها العقل وتحصنها الأخلاق أكثر من القيود والأزياء. فلا غرو أننا كنا ملفت نظر العالم في نظرتنا للمرأة وفسرت بعض القيود التي فرضناها عليها بدون أسباب منطقية على أنها نظرة دونية لها راسخة لدينا.
وسيذكر التاريخ حتمًا لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، -حفظهما الله-، على أنهما أول من اتخذ خطوات عملية لتصحيح هذه النظرة الخاطئة غير المنصفة للمرأة في المجتمع السعودي، وأنهما وضعا المرأة في مكانها الصحيح إنسانيًا واقتصاديًا واجتماعيا. فمن الصعب أن يحقق مجتمعنا أيّ تطور أو رؤية اقتصادية ونصفه معطل، ولذا أتيح الخيار للمرأة الراغبة في ذلك العمل وكسب الرزق والمشاركة في بناء المجتمع بما لا يتعارض مع تعاليم الإسلام السمحاء وبالشكل الذي يحفظ للمرأة كرامتها.
فعقود الرفاه الأخيرة تسببت في الفصل الصارم بين الجنسين وفي بعض التشوهات الاجتماعية والتربوية التي طبعت مجتمعنا. فالمرأة قبل ذلك كانت تشارك بفعالية في المجتمع ولو بشكل مبسط: في الزراعة في القرى والحواضر، و الشد والترحال في البادية.. بل إن التاريخ حفظ لنا أسماء سيدات عرفن بالشجاعة والفصاحة والكرم وهي أهم الصفات التي يفاخر بها الرجل.. وحدث الانقلاب الكبير في حياتنا وفي مفاهيمنا حول المرأة مع هجرة الناس للحواضر والمدن الكبرى والعيش في بيئات اجتماعية اختلطوا فيها بأفراد غرباء وأعراف وأخلاق غير معتادة، فتقوقعت الأسر في بيوتها وكان من الطبيعي أن يترك مجال الكفاح للقمة العيش خارج البيت للرجل. تأقلمنا شيئًا فشيئا مع هذا الوضع واعتقدنا أنه هو الوضع الطبيعي والآمن لنمط حياتنا.
انقسم مجتمعنا فعليًا لمكونين منفصلين تمامًا مجتمع للرجل وآخر للمرأة. وتشتت الأطفال بين هذين المكونين: الأولاد مع مجتمع الرجال، والبنات مع مجتمع النساء. وانعكس ذلك على منازلنا حيث حوت صالات استقبال للرجال وأخرى للنساء. ولذا قوبل أمر الملك فيصل -رحمه الله-، بفتح مدارس للبنات بدايةً بمعارضة وتخوف البعض، تمامًا مثل ما يتوجس البعض اليوم من قرارات تمكين المرأة من القيادة أو العمل لكسب لقمة العيش. وثبت فيما بعد ألا أساس للتخوف من تعلم المرأة كما سيثبت ألا أساس للتخوف لتمكينها من العمل. و رغم تقدم تعليم المرأة وتفوقها حرص بعضنا على إدامة النظرة السلبية التقليدية لها على أنها مصدر التهديد الأخلاقي الأول بدون أساس منطقي أو واقعي مما خلق تناقضًا واضحًا بين القناعة والواقع وبروز مظاهر عصابية في بعض جوانب حياتنا الأسرية والاجتماعية مصدره الأساس جهل الرجل بطبيعة المرأة وجهل المرأة بطبيعة الرجل. وتحولت زيجاتنا لأمر أسري لا يخص الشاب والفتاة، بل يخص العائلة أولاً والزوجين ثانيًا، ونجحت كثير من هذه الزيجات لأنها كانت في عمقها توافقية مصلحية فقط: المرأة تريد الستر، والرجل يريد ربة بيت ومنجبة أطفال. واعتدنا على هذا الوضع واعتقدنا أنه الوضع الطبيعي، حتى قيل أن الحب بعد الزواج أقوى من الحب قبل الزواج؛ لِمَ لا والمجتمع يعيش حياة منفصمة تماماً، الرجال يهربون بعد العمل للاستراحات، والنساء يبقين في البيوت يتابعن المسلسلات.
توسعنا في البعثات للفتيات ولم نقيّم انعكاس ذلك على الحياة الاجتماعية فيما بعد البعثات واستمررنا في فرض الواقع السابق بالرغم من تزايد صعوبات الحياة فزادت حالات الطلاق والعنوسة بشكل كبير لا تساع الهوة بين الأعراف السائدة والواقع. فلم يعد كثير من الشباب والفتيات يؤمنون بنظرية الزواج أولاً واختبار الوئام لاحقًا، وأصبح الزواج عبئًا نفسيًا على كليهما وهذا يفسر العزوف المتزايد عنه. ولذا فقد يكون تمكين المرأة، والذي نمر به اليوم أكبر خطوة تطويرية في تاريخ المملكة، وانعكاسها الاجتماعي سيوازي وربما يتفوق على جانبها الاقتصادي، لأنه سيعيد للمجتمع توازنه الذي فقده، ويخلصه من كثير من المفاهيم الخاطئة عن العلاقة بين المرأة والرجل. لكن ذلك مشروط بمقدار حملات تثقيف المجتمع لمساعدة الطرفين على فهم بعضهما البعض بالشكل الصحيح، وتخليص المجتمع من بعض المفاهيم الخاطئة التي تعود عليها لعقود من الزمن.