المرأة هي نصف المجتمع فهي الأم التي تنجب الأبناء وتعلمهم القيم والأخلاق الحميدة وتنشئهم على الطاعة والعبادة وهي الزوجة الوفية التي تهتم بشؤون زوجها، وتقوم بالمشاركة في كافة النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع، ترفع شأن مجتمعها وتعلي رايته بالحق، وهنا سوف نتحدث عن امرأة قدمت الكثير من أجل مجتمعها نموذجاً وقدوة هي الأميرة حصة بنت أحمد بن محمد السديري إحدى زوجات الملك عبدالعزيز - رحمها الله -، ولدت، عام 1318هـ/ 1900م في بلدة الغاط تزوجها الملك عبدالعزيز سنة 1331هـ/ 1913م,وتوفيت سنة 1389هـ/ 1969م. وتعد أكثر زوجاته إنجاباً، فقد، ولدت له سبعة من الأبناء، وسبعاً من الإناث: وقد كانت تدعى أم فهد ومن بعده سلطان وعبد الرحمن وتركي ونايف وسلمان وأحمد ومن البنات: فلوة وشعيع وموضي ولطيفة وجواهر والجوهرة.
وقد نشأت حصة في أسرة كبيرة، وفي بيت مربٍّ فاضل، فحظيت برعاية واعية من والديها انعكست في صفاتها الحميدة التي عرفت بها، وفي اهتمامها بالتعليم وحبها للخير.
وتميّزت الأميرة حصة بنت أحمد السديري بأنها حصيفة، ذكية، قوية الشخصية، محبة للخير، حريصة على العلم، تقيَّة تقدِّم مخافة الله على كل شيء، ودودة مع الكبار، حنونة مع الصغار، زوجة متميزة تقدّر المسؤولية.
تزوجها الملك عبدالعزيز صغيرة السن، فكان لها زوجاً شهماً ومعلماً نبيهاً، فتعلمت منه ما يعينها على تربية أولادها أحسن تربية، وتعلمت منه وهو القائد الحصيف ورجل الدولة المحنك، متى تلين ومتى تشد، وكان أهم ما خرجت به من الحياة مع عبدالعزيز آل سعود حب العلم واحترام المعلمين، كما تعلمت كيف تتجاوز الضعف الذي تقع فيه كثير من الأمهات في تربية الأبناء، فتسيء من حيث تريد الإحسان حين يغلبها عطفها وحنانها، وهو خطأ لم تقع فيه الأميرة حصة في تربية أبنائها وبناتها، وقد تركت بحسن تربيتها ووعيها آثاراً وذكريات لا تنسى في حياتهم.
وتميّزت الأميرة بحس أسري عميق، فقد كرّست حياتها للاهتمام بتربية أولادها والعناية بشؤونهم، وبرعاية بيتها ذلك البيت الذي أنشأ وخرّج كوكبة من القادة والقياديين المحنكين من ذوي الإدارة والدراية والإمارة، يذكر المؤرّخ الأديب عبدالرحمن الرويشد - رحمه الله - وهو مدون أخبار الأسرة المالكة والخبير بشؤونها «إنّ الأميرة حصة من فُضليات النساء عابدة، وعلى مستوى من الوعي وكان الملك عبد العزيز يعاملها كزوجة فاضلة من كبريات زوجاته، تربي أبناءها تربية عظيمة، تختار الأشخاص لهم بعناية، وكان عندها عدد من العلماء الفضلاء ممن تولوا القضاء، فيما بعد وممن عاش عندها في قصرها الشيخ عبد الرزاق القشعمي, والشيخ عبد الله بن حماد والشيخ سلمان الربيش, والشيخ عبد الله بن زيد بن سليمان, جميعهم كانوا يلقون دروساً في البيت ويرشدون ويعلمون أبنائها, وكان الملك سلمان وإخوته يحضرون جميعهم الدروس، فقصر الأميرة حصة السديري كان مدرسة لتثقيف السادة حتى الخدم في وقت واحد، إذ كانت تهتم بالدروس وتعلم أهميتها في تربية الأطفال, وكانت توزع «الحلوى» على الصغار والأطفال، وتلك عادة لم تقطعها.
وتعتبر من الأميرات اللاتي تركن أثراً بالغاً في القصر بالعقل والاتزان وتدبير الأمور، وحميمية العلاقة مع كبار أسرة الملك عبد العزيز كعماته وأخواته الشقيقات فكانت تبرّهم جميعاً براً بزوجها الملك عبد العزيز، كما كانت علاقتها مع أزواج الملك عبد العزيز علاقة قائمة على المحبة والألفة والاحترام المتبادل، وكان تعاملها مع زوجات أبنائها معاملة الأم وفي قلبها رحمة وعطف وحنان يسع الجميع وكانت تداوم على قيام الليل وكثرة الصلوات، وتعويد أبنائها على ذلك وتتفقد من هم بالقصر ومن هم تحت يدها دائمة الذكر لله - عزَّ وجلَّ- يلهج لسانها الرطب، بذكر الله على الدوام .
وهكذا حظيت بمكانة عالية في قلوب الناس وفي قلب زوجها الملك عبدالعزيز، فمما يروى عن سبب حب الملك عبدالعزيز لها ما ذكره ابنها الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله- بأنها - رحمها الله - كانت عفيفة اللسان طيبة القلب، إذ لم يسمع منها الملك عبدالعزيز طوال حياتها معه كلمة نابية أو إساءة لأحد أو إضراراً بأي إنسان، ولهذا كانت من أحب زوجاته إليه وأقربهن إلى قلبه.
هذه هي الأم العظيمة التي نشأ أبنائها تحت قبة رعايتها وفي مدرستها التربوية انطبق عليها بحق وصف الشاعر (الأم مدرسة إذا أعددتها..أعددت شعباً طيب الأعراق) ينطبق معنى هذا القول على أم أرضعت أبنائها الفضيلة مع الحليب وربطت قوام الأخلاق بالعلم والتأديب وأدركت أن تلازم العلم والأخلاق أساس التربية القويمة والتنشئة الصالحة, فكانت بحق المدرسة التي تربى فيها أبناؤها قبل أن يتلقنوا أصول الكتابة والتدريس في المدارس, فالبيت هو أساس المجتمع كما أن الفرد هو عماد الوطن وبناؤه يعتمد على بناء النفوس.
وبعد أن شب أبناؤها الأمراء وتبوؤوا مناصبهم في الدولة وتوفي الملك عبدالعزيز، ظلت الأميرة حصة السديري تحرص على أن يكونوا قريبين منها دائماً، فمن ذلك أنها كانت تصر على أن يجتمعوا جميعاً على مائدتها للغداء يومياً، وتسأل عن أسباب تأخر أحدهم عن الحضور وهو ما يدل على رغبتها في تقوية أواصر الأخوة بينهم وتلاحمهم، كما حرصت كل الحرص على الاهتمام بشؤونهم الأسرية وتولّت ترتيب زواجهم وتهيئة أسباب السعادة لهم،
ومن جانب آخر كان لحصة تلك المرأة العابدة التقية اهتمام بالعمل الخيري والإنساني, إضافة إلى اهتمامها بالجانب العلمي, ومن المعلومات التي ذكرت عن اهتمامها بتعليم بناتها للقرآن وحفظه أن اختار لها الشيخ عبدالرزاق القشعمي سليمان بن حمد العراجه المعروف بسليمان المطوع وقد كان يحفظ القرآن كاملاً وهو ابن العاشرة فوجدت أنه خير ما يناسب تعليم بناتها وتحفيظهم القرآن وهذا ما أكده ابنه د. صالح العراجة، وسعت إلى نشر العلم بين الأطفال عن طريق تشجيعهم على حفظ القرآن وعلى تعلّم القراءة والكتابة والعلوم المختلفة وكانت تقوم بوضع الجوائز المميزة للطلاب المتفوّقين, تشحذ بها همة الآخرين كما أنها حرصت على توفير الكتب لطلبة العلم أوقفتها لهم لا تباع ولا توهب ولا تورث، فكان وقفها لأغلب المخطوطات والكتب النفيسة التي ما زال الطلاب إلى الآن يستفيدون منها وتعتبر من مصادر الكتب الشرعية والفقهية, وهي الآن مصنفة في مكتبات وأرشيفات المملكة في دارة الملك عبدالعزيز ومكتبة الملك فهد وغيرها, تأكيدًا منها على نشر العلم بين أبناء المملكة.
وقد ذكر الشيخ القشعمي أنه أشرف على العديد من الأعمال ومنابع الخير التي قامت بها الأميرة حصة مثل بناء المساجد في القرى والهجر النائية، إضافة إلى اهتمامها بإنشاء مدرسة لحفظ القرآن وتشجيع الاهتمام بكتاب الله. وكانت تخصص أوقاتاً للاستماع إلى ما تيسّر من القرآن بعد صلاة العصر، حيث تجلس وبعض نساء القصر ليبدأ الشيخ والذي يجلس في إحدى الزوايا بالقراءة وتستفتيه وتسأل عن أحواله وأحوال الفقراء والمحتاجين, إذ كانت تحرص على فتح بابها لمعرفة احتياجهن وقضائها
وبعد إنشاء المدارس كمدرسة الأمراء التي تعلّم فيها أنجال الملك وبعض أبناء إخوته وعمومته مناهج القراءة والكتابة والحساب على أيدي معلمين أكفاء، لم تكن هذه المدارس لتنجح في تعليم أبناء الملك عبدالعزيز التعليم اللائق بهم لولا التوجيهات الصارمة من الأب الملك نفسه بعدم التهاون مع أبنائه في أي تقصير منهم، ومعاملتهم مثل بقية أبناء الشعب في الحقوق والواجبات إن لم تكن معاملة أشد، وقد عبّرت والدتهم عن هذه الشدة التربوية أبلغ تعبير جعلت من أبنائها يحكمون بالعدل، ولا يحابون قريباً أو صديقاً، ولا يخافون في الله لومة لائم، وظلت الأم العظيمة حصة بنت أحمد السديري تحوط أولادها برعايتها وحنانها صغاراً واهتمامها وحبها كباراً، وقد تركت هذه الأمومة التربوية الحنون في قلب وحياة أبنائها خاصة الملك سلمان أكبر الأثر في بناء الجوانب الإنسانية المتينة في شخصية الحاكم العادل المحب لشعبه ولأمته.
وقد حظيت هذه الأم بالعمر الذي رأت فيه أولادها أمراء كباراً مسؤولين تسلّموا الملك والوزارات وكانت وهي تؤدي ذلك الدور التربوي المميز على وعي تام بأنها تقوم بتربية ملوك يجب أن يصل إليهم الحكم بعد أبيهم عن جدارة وكفاءة لا عن ميراث فحسب، فأرضعتهم المجد وفتحت أعينهم على جوانب عظمة أبيهم وجهاده وشخصيته وحبه للعلم منذ صغره.
تلك هي بيئة الملك سلمان التي نشأ فيها وإخوته وترعرع رعاية أبوية وتربية دينية ومناخاً وطنياً صالحاً وثقافة واسعة وتجربة ثرية على مر السنين, نبع من الجذور وسما إلى العلا في قلب جزيرة العرب, والمملكة العربية السعودية.
وفي ختام هذا الحديث ينبغي علينا كباحثين أن نستنبط القيم والمبادئ والأعمال الجليلة التي نأمل أن يسير المجتمع على نهجها بما تحمله تلك السيرة وغيرها من سير الرائدات من أبعاد تربوية وسلوكية عليا, تسهم في بناء الأجيال الحاضرة والمستقبلية.
شكراً لملتقى مكة الثقافي الذي أتاح لنا منبراً لعرض تجربة هذه الأم المثالية والقدوة المثلى والنموذج الفريد..
** ** ** **
المصادر/ دلال الحربي: نساء شهيرات من نجد عبداللطيف الحميد سلمان بن عبدالعزيز, صالح الذكير نساء في الذاكرة, فهد الكليب: الأميرة حصة السديري, موسوعة الملك فهد بن عبدالعزيز. دارة الملك عبدالعزيز.
** **
د. لطيفة بنت مطلق العدواني - أستاذة التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الطائف