د. جاسر الحربش
يفرض الواقع العالمي الحالي على كل دولة من الوزن المتوسط أو الخفيف في القوة العسكرية أو العلمية أن تتحالف مع آخر من الوزن الثقيل، لكي تستطيع مقاومة التهديدات والضغوط من القوى العالمية والإقليمية المعادية. المملكة العربية السعودية بالتأكيد دولة قوية في الميزان المعنوي، لكنها أقل قوة في الميزان العلمي والعسكري، وتمر بمرحلة تنموية وطنية شاملة بهدف الوصول إلى تكامل المعنوي مع العلمي والعسكري، أي بناء الإنسان الجديد الذي لا يحتاج الآخرين إلا في حدود التبادل الحضاري المتوازن.
تحت هذا الواقع في موازين القوى إلى أي مدى يستطيع الحليف الأقل قوة أن يصبر على مزاجيات ومطالب حليف أقوى، قد تصل أحياناً إلى التلميح الفج بالابتزاز المالي والسيادي؟. لأن مبدأ التحالف من أساسه يقوم على الإدراك المتبادل لشرط المصالح المشتركة، فمن الطبيعي أن يكون ما يربط المتحالفين ليست علاقة حب ولا مبادئ مطلقة، بل ارتباط في حدود الصبر المقدور عليه وفي حدود التوقعات المقبولة، وحتماً داخل المصالح المضمونة للطرفين.
علاقة الإدارة الأمريكية الحالية مع حلفائها ليست ودية وأحياناً خارج حدود اللياقة، بما في ذلك أعضاء الحلف الأطلسي في أمريكا وأوروبا وأستراليا، لكن هؤلاء يستطيعون مقاومة مهاترات التذكير المتكررة لهم بمظلة الحماية الأمريكية وبواجب الدفع مقابل ذلك، يقاومونه بما يملكون مع عناصر الاعتراض والرفض. كل دول الغرب المتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك علاقات اقتصادية هائلة وتبادلات ثقافية وتفاهمات جيوسياسية مع أقطاب القوى الأخرى، وأهمها الصين وروسيا، وهذه إحدى الأوراق ضد الابتزاز من قبل الحليف الأمريكي. الورقة الأقوى هي تضامن الدول الرئيسية في الاتحاد الأوروبي على مسار سياسي واقتصادي ودفاعي واحد، ليس في وجه الحليف الأمريكي وإنما في وجوه كل القوى الأخرى، وهذا هو أساس النقص المعيب في منطقة الشرق الأوسط.
لكن ماذا عن أوراق المقاومة ضد ابتزاز الحليف الأقوى المتوافرة لدولة مثل كوريا الجنوبية، كانت أيام ضعفها عرضة للابتزاز فشاركت الأمريكيين مضطرة بخمسين ألف جندي في حرب فيتنام، ثم نراها اليوم ترفض الانجرار إلى المشاركة في حرب ضد كوريا الشمالية؟ المتابع للسياسة الكورية الجنوبية يستطيع التعرف على مقاومة من تحت الطاولة وصلت إلى حدود التصريح بأن الحلف الدفاعي مع أمريكا يجب ألا يصل إلى قبول الحرب بين الشمال والجنوب الكوري، والاكتفاء بما دون ذلك من الضغوط السياسية والاقتصادية. هذه الاستقلالية النسبية حصلت عليها كوريا الجنوبية بعد صبر نصف قرن استغلته في التركيز المضني على العلم والتصنيع وبناء المواطن الكوري القوي الجديد.
الملاحظ حالياً أن أكثر التلميحات في مقابلات وتصريحات الإدارة الأمريكية الحالية تدور حول مفهومه المتعالي على منطقة الخليج العربي. لا يمل الرئيس الأمريكي الحالي من تكرار الادعاء بأن دول الخليج تمتلك ثروات هائلة ولكنها لا تستطيع الدفاع عن نفسها وأموالها، ولذلك يجب عليها أن تدفع، ثم يؤكد أنها سوف تدفع. يقول الرئيس الأمريكي في كل محفل إعلامي متاح له أن بلاده خسرت سبعة تريليونات دولار في المنطقة مقابل لا شيء. كسياسي مثل غيره يستطيع أن يبالغ أو يغيب الحقيقة ولكن ليس إلى هذه الدرجة من الاستخفاف بالآخرين. كل العالم يعرف أن أمريكا فبركت كذبة خسيسة لغزو العراق وخسرت فقط أربعة آلاف قتيل وعشرين ألف جريح أمريكي مقابل مليون قتيل عراقي ومليوني جريح ومعاق وتمزيق النسيج الاجتماعي واحراق عشرات المدن ومسح الدولة العراقية من الخارطة. السبعة تريليونات دولار المزعومة لم تدفعها أمريكا لوحدها وإنما بمشاركات سخية من حلفاء آخرين يفضلون عدم الدخول في التفاصيل.
أما الكذبة الأكبر فهي الزعم المتكرر بأن أي مواجهة محتملة مع إيران هدفها حماية دول الخليج. الهدف المعروف هو حماية إسرائيل والمصالح الأمريكية أولاً ثم التوصل إلى حل متصالح مع مشاركة إيران في المنطقة على حساب العرب سنة وشيعة، فلا تموت الذئاب ولا تفنى كل الغنم.
إنني على يقين بأن القيادة السعودية بخبرتها التاريخية وحكمتها السياسية تطبق المبدأ الكوري الجنوبي، أي الصبر والعمل الجاد لبناء الإنسان الجديد، القوي بعلمه وحضارته ووطنيته، ثم يأتي لاحقاً تعامل الأنداد مع الأصدقاء والأضداد. المرحلة التنموية التي نمر بها مرحلة صبر وعض على النواجذ وعلى الجميع إدراك ذلك والتفاني في تحقيقه.