د.عبدالله بن موسى الطاير
خمسة وستون عامًا من العداء المحتدم بين أبناء الشعب الكوري الواحد في شبه الجزيرة الكورية شمالها وجنوبها بدت بلقاء رئيسي الضفتين الشمالية والجنوبية كمماحكات أطفال. الرئيسان الكوري الشمالي كيم جونغ أون والكوري الجنوبي مون جاي إن تصافحا على حافتي هاوية لا يزيد عرضها عن 50 سم، كانت قبل يوم الجمعة تمتد مئات الكيلومترات في عمق الشطرين مسلحة بأفتك الأسلحة محلية الصنع ومستوردة، ومنها المصنف ضمن أسلحة الدمار الشامل. الشاب الكوري الشمالي الذي فرض نفسه سريعا خليفة لوالده في الثلث الأخير من ديسمبر 2011م وهو لم يبلغ الثلاثين عاما في أصدق الروايات تجاوز في خطوة واحدة حدود الدم ليلتقيه مضيفه الجنوبي الكوري بابتسامة بدت لي أنها صادقة وليبادره الضيف الشمالي باعتذار عن سهر الليالي الذي سببه له بسبب اطلاع الصواريخ الباليستية في تجارب آخر الليالي منذ تولى كيم السلطة خلفا لوالده.
كان يمكن لنا أن ننظر إلى المفاجأة الثانية خلال أسبوع -بعد تخلي كوريا الشمالية عن تجاربها النووية- على أنها حالة من كسر الجمود الطويل، وتهدئة للذعر المتبادل بين شعب قسمه النظام العالمي بين دولتين وصل العداء بينهما حد التربص بالآخر لتدميره. لكن السياق التاريخي والإستراتيجي يشي بغير هذا التفسير السطحي للقاء التاريخي، فكوريا الجنوبية هي تحت الوصاية الأمريكية وتمثل بدون أدنى شك رأس الحربة في نظام عالمي جديد يتشكل على يد الولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وكوريا الشمالية الحاجز الفاصل بين نظامين أحدهما كان مؤسسا على ترتيبات الحقبة الاستعمارية التي هيمنت فيها أوربا على العالم وتركت إرثا معقدا على مستوى السياسة والثقافة وطبيعة العلاقة بين مكونات الأمة الواحدة ليسهل عليها التحكم فيها عن بعد وبخاصة من لندن. وإلى جانب تركة الاستعمار والنظام العالمي الآفل تصطف الصين المثقلة بالإرث الشيوعي للاتحاد السوفيتي وأيدولوجيته التي تمكنت في الصين وكوريا الشمالية، وبذلك فإن الأخيرة لم تكن تمثل نفسها بقدر ما تعتبر آخر معاقل النظام الشيوعي والإرث البريطاني والأوروبي عموما في خاصرة العالم الشرقية، وبذلك يمكن وبسهولة القول بإن ما حدث خلال أسبوعين متواليين ما هو سوى انتصار ساحق للنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، ليس بالضرورة ضد بقايا الشيوعية والقطب البائد (الاتحاد السوفيتي) وإنما ضد ما تبقى من النفوذ الأوربي ذاته. ربما نصور المشهد أنه حالة من الصراع بين نظام مؤسس منذ القرن السادس عشر تقريبا وقوة عالمية نشأت فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي هكذا صراع فإن الحرب بين الجانبين تكون آخر الحلول إذا لم يتمكن التأثير السياسي والثقافي والاقتصادي أن يحسم الصراع سلميا. وفي الحالة الكورية نشهد بوادر نهاية غير مسلحة لتدخل الضفة الشمالية من شبه الجزيرة بيت الطاعة ضمن منظومة مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في مقابل الصين وروسيا.
لقد كانت الصين تنظر إلى كوريا الشمالية على أنها أحدد مهددات أمن المنطقة واستقرارها كما كتب ذلك هنري كيسنجر في مصنفه النظام العالمي، ولكن الصين كانت أيضا ترى في انهيار نظام كوريا الشمالية خطرا إستراتيجيا عظيما عليها وعلى روسيا. ويبدو أن الصين قرأت المشهد بعقلانية فخرجت بحكمة صينية شجعتها على التمسك بثورتها الاقتصادية على حساب أيدولوجيتها الشيوعية المعادية للولايات المتحدة. لقد تأكد للصينيين أن الرئيس ترامب يمكن أن يوقف النمو الاقتصادي الصيني بتغريدة واحدة تضع أمام وصول السلع الصينية عقبات ضريبية باهظة تنعكس ركودا اقتصاديا لا تتحمله الصين تحت أية ظرف. القرار الصيني في تسليم كوريا الشمالية للولايات المتحدة الأمريكية يجعل روسيا منفردة ومكشوفة أمام الولايات المتحدة الأمريكية وهي التي تحارب ببسالة دون أن تسمح للناتو بالاقتراب من حدودها الغربية فإذا بها تصبح وقد جاورتها أمريكا على حدودها الجنوبية الشرقية. إن هذا اللقاء إذا قدر له أن يتطور وبسرعة لتدخل بموجبه كوريا الشمالية بيت الطاعة في ظل النظام العالمي الجديد الذي تريده أمريكا سوف يقرب المواجهة بين أمريكا وروسيا لحسم مصير قيادة العالم.