د.عبد الرحمن الحبيب
السياسة الخارجية للدولة هي فن الممكن للتعامل مع الواقع السياسي موضوعياً من أجل تحقيق مصالحها التي تتأسس على علاقاتها الخارجية وحُسن اختيار الحلفاء. فأثناء الصراع بين الدول العظمى تجد بقية الدول أنها أمام خيارات صعبة.. وأثناء الخلافات الإقليمية تحتاج حليفاً عالمياً يساندها..
في زيارة لهنجاريا قبل ربع قرن وبعد سقوط النظام الشيوعي ذُكر لي هناك أن ثمة فكرة نقدية يرددها المجريون عن أنفسهم: إننا فاشلون في اختيار الحليف العالمي، مما أدى لقتل وتشريد أكثر من نصف سكاننا.. انضممنا مع النمسا في إمبراطورية كانت وبالاً علينا في الحرب العالمية الأولى وعوقبنا بسببها.. ثم تحالفنا مع دول المحور بقيادة ألمانيا بالحرب العالمية الثانية وكانت النتيجة أسوأ من الأولى.. وبعدها تحولت بلادنا إلى المنظومة الشيوعية مع السوفييت في الحرب الباردة ضد أمريكا وخسرناها..
فإذا كانت هنجاريا -آنذاك- في نظر سكانها نموذجاً للاختيار السيئ للحليف، فإنني أرى أننا في السعودية نموذجاً لاختيار الحليف العالمي المناسب. الاختيار ليس عاطفة أو إيديولوجية تعمي صاحب القرار، بل عقلانية لتحقيق مصالح الدولة. في لقاءات عديدة مع مثقفين عرب وغير عرب من الشرق الأوسط كان بعضهم ينتقد السعودية بتحالفها الوثيق مع أمريكا «الإمبريالية»؛ وكنت أقول إن تلك من المحاسن في اختيار حليف هو الأقوى عالمياً، بدلاً من حليف متهور مقبل على الفشل كألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية وكالاتحاد السوفييتي بعدها، أو حليف قوته من الدرجة الثانية كروسيا ضد أمريكا التي تمتلك القوة الأعظم بالعالم..
في ذروة الحرب العالمية الثانية، طرح هنري لوك، مؤسس مجلة تايم، بأن أمريكا جمعت من الثروة والقوة بحيث يمكن تبسيط تعريف القرن العشرين باسم «القرن الأمريكي». أمريكا دخلت تلك الحرب في منتصفها مع الحلفاء ضد ألمانيا فتوالت الهزائم على تلك الأخيرة..
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، التقى الملك عبد العزيز مؤسس الدولة السعودية الثالثة مع الرئيس الأمريكي روزفلت وهو قادم من مؤتمر يالطا الذي عقده المنتصرون في تلك الحرب (أمريكا، الاتحاد السوفييتي، بريطانيا). في هذا اللقاء عقدا اتفاقاً شكَّل حلفاً قائماً حتى يومنا هذا. رؤية الملك عبد العزيز الفطرية الثاقبة تمثّل بكل جدارة فن اختيار الحليف، مدركاً أن بريطانيا ذات القوة الأعظم قبل الحرب خرجت مثخنة بجراحها، وأن الاتحاد السوفييتي الصاعد بقوة له نظام يصعب استمراره، بينما أمريكا حصان رابح. قد يبدو هذا الاختيار سهلاً الآن، لكنه لم يكن كذلك في حينه..
منذ الحرب العالمية الثانية، لم تُحسن دول كثيرة اختيار الحليف أو الخصم فكان وبالاً فادحاً عليها.. اليابان حاربت أمريكا فهزمت شر هزيمة فعادت وتحالفت معها فصارت في غضون ثلاثة عقود من أقوى دول العالم اقتصاديا، وكذلك ألمانيا الغربية، تحالفت بعد الحرب مع الغرب وأصبحت الأقوى اقتصادياً بأوربا، فيما عانت ألمانيا الشرقية من ضعفها عندما تحالفت مع الاتحاد السوفييتي لحين سقوطه.. وكذلك في شبة الجزيرة الكورية، تطورت كوريا الجنوبية من دولة فقيرة إلى مصاف الدول المتقدّمة بعد تحالفها مع أمريكا، فيما لا تزال كوريا الشمالية المعادية لأمريكا، تعد من أفقر الدول، باستثناء قوتها النووية.. بل حتى فيتنام التي قاتلت الأمريكان وانتصرت عليهم وطردتهم في حرب تحرير صفق لها العالم، أدركت أهمية أمريكا، وعادت بعد نحو عقدين تسترضيها وتطلب التطبيع معها، حتى وصلت لاتفاقات دفاعية مشتركة..
بعد أربعة عقود ونصف من الحرب العالمية الثانية انهار الاتحاد السوفييتي، وتراجع موقع بريطانيا.. فيما لا تزال أمريكا الأقوى عالمياً في شتى المجالات: الاقتصادية، العسكرية، التكنولوجية، العلمية.. في تلك الأثناء، صعدت قوى منافسة جديدة كالصين والهند، مع بقاء بريطانيا وروسيا، وفرنسا كقوى عسكرية عظمى؛ وبرزت معها قوى اقتصادية عظمى كاليابان وألمانيا والنمور الآسيوية.. إلخ. أما السعودية فقد فتحت علاقات وثيقة مع جميعها، والإبقاء على تحالفها الأهم مع أمريكا.. وها هي في مصاف دول العشرين الأقوى اقتصادياً، رغم كل الاضطرابات التي يعاني منها العالم العربي..
الآن، يدخل العالم حرباً باردة بين أمريكا وروسيا.. أغلب الدول تقف مع أمريكا أو تميل لموقفها أو على الأقل محايدة، فيما يقف ضد أمريكا ومع روسيا عدد ضئيل من الدول أغلبها فاشلة أو مثيرة للاضطرابات الإقليمية. الجميع يخطب ود أمريكا، لكن هناك من وثق العلاقة معها جيداً عبر الزمن وعبر شبكة متقنة من العلاقات والاتفاقات المتنوّعة، وهناك من لم يحسن ذلك. حتى من ظل يعادي أمريكا، مثل كوريا الشمالية وإيران، هو الآن يبحث عن ترميم العلاقة معها، لكن الأخيرة تعاني من التطرف الإيديولوجي، رغم أنها تناضل للإبقاء على الاتفاق النووي وتتمنى عدم انسحاب أمريكا، ولا يهمها من هذا الاتفاق سوى أمريكا خشية عقوباتها..
القوة الأمريكية ليست ثابتة وليست دون منافسة، والعالم يتغيّر، لكن حتى الآن، كل الأنظمة التي عادت أمريكا في النصف الثاني من القرن العشرين سقطت أو غيّرت موقفها ما عدا إيران، ولن تكونا استثناءً من السقوط أو تغيير موقفها.. فمن لم يحسن الاختيار عليه تحمّل العواقب..