د. خيرية السقاف
اليوم أساجلك حديث النفس بنتي, في آخر سطور الكتابة قبل الإجازة السنوية التي أبدأها بعد غد, أستعيد معك الأيام, ونحن نتقلّب بين البشر, ونوغل في دروب الحياة معهم, أتذكركِ وأنتِ تنبتين يافعة كالياسمينة, تعبقين كزهرتها البيضاء, تبوحين ندى خضرتك يبعث الرواء في نفوس من حولك, بهدوء حكمة فيك, فمذ لثغة أول عبارة من فمك توسَّمتـُكِ هذه الشجرة التي أمامي الآن, المثمرة غصونُها, المطعِمة جياعي الإنسانية في دربها, التي تدب في البيت رحمة, ووداً, وفي العمل صدقاً, وتفانياً, وفي الجوار سلاماً, وأمناً, وفي الطريق عوناً, وبذلاً, وفي المواقف نزاهةً, وحُلماً, وخلقاً, وأدباً, ومثالاً.. الصادقة في العلن, وفي السر, الواضحة مع النفس, ومع غيرها, النزيهة في الكل, وفي الدقيق, المتفانية ولو على نفسك, الصبورة وإن على حقك, المتسامحة المتصالحة بحكمة الثقة, ووعي الإدراك..
هذه الشجرة الوارفة التي هي أنتِ بلغني طيب شذاكِ, ويبلغني حيث ألتقي من أعرف, ومن لا أعرف, من يزاملك, أو يتعامل معك, أو يشهد آثاركِ, ممن رافقك العمل وقتاً, أو سانحة منه, ممن شهد لك موقفاً تبوأتِ فيه مناف الرقي أدباً, وعلماً, وخبرةً, وتواضعاً, أو تركتِ في مساره بصمتك, سلامكِ, ومسحة كفِّ رأفتكِ, وعطائك, ومزيدكِ..
ضوء يشع إلي من حيث تخطرين راجلة, أو راكبةً, في بيتكِ, أو مواقع عملكِ, أو صحبة رفيقاتكِ..
هذه أنتِ قرة العين إباء..
بالتأكيد تذكرين يا فلذة الروح حين كنتِ هنا, جواري تنشئين, وترفلين, لا أفتح عيني على غير طلعتك الوضيئة, ولا أغمضها إلا بك..
وعندما أخذتِ تشقين في الحياة دربك, تمتدين, وتمتد بك الجداول, تأخذين, وتمنحين..
قلتُ لكِ يومها, الطريق سيتسع بكِ, ولسوف تلتقين من يسرك, ومن يختلف عنكِ,
ففي مساراتك لن تكون بيئة الياسمين, ولا عذب ماء نهرك الذي تتدفقين, لن تصفو السماء دوماً, ولن تخضر الأرض مطلقاً, ولن يكون الناس كلهم الذين تعهدين..
وقلتُ أيضاً لكِ ستلتقين الماء الآسن, والمستنقع الوخم, والشجر الجاف, والحصى المتناثر, والكمائن في الطريق, والأكمات على جوانبه, والحفر في بعض مفازاته, كل ذلك في ذوات ليست الذوات التي تعهدين, التي تعرفين الحياة على نهجها, وتسير بوصلتك وفقها, وتخطو قدماك معها في جنة الياسمين..
فالحياة بنتي في طرقها المتشعبة الناس فيها جنة ونار, خير وشر, خلق حسن وسوء, نبل ووضاعة, محبة وكره, طيبة وحقد, رضا ورفض, فكوني أنتِ مهما تشعبت بك الدروب, وعصفت من حولك الأنواء, وسقطت أمامك القيم..
كوني التي تضفين من عذب نهرك ما يرطب الجاف, ويطفئ النار, ويرفع المنحدر, ويسمو بالوضيع, ويردم الحفر, ويدفن المستنقع, ويُحسِّن السوء, ويمحو الكره, ويشيع المحبة, ويزيل القلق, ويزرع فسائل الياسمين..
ولسوف تجدين أشباهكِ ففي المحاضن من ستنبت بتلاته, ومن سوف تتدفق جداول ياسمينه, ولسوف تلتقينهم في الطرقات وسيلتقونك, ولسوف تطيب الحياة بكم معاً..
هؤلاء هم صفوتك التي ستجدينك معهم لتحلو الحياة بكم, وتثمر..
اليوم أراك وقد خبرتِ الطريق الطويلة, خريطتها بين يديك, ترين فيها الدقيق والكبير, تعرفين فيها الاتجاه, والهدف, ثابتة لم تلفحك بوهجها فأنتِ الخضراء, ولم تأخذك لكمائنها فصمدتِ البوصلة, ولم تلطخ بطميها نقاءك فأنت الزهرة البيضاء النقية..
ولأنني أراك شامخة في منافكِ, متدفقة بجداولك, معطاءة بلا تردد, نقية كفطرتك, سامية بعفتك, نزيهة بقيمك, رفيعة بخلقك, تنهلين من الحياة تعطينها, ولا تأخذين إلا خلاصة العذب, وتتجاوزين ملوحة الأجاج, بثقة المصدر, وثبات المبدأ, فإنني مطمئنة بكِ على إرث الجمال, فالحياة لا تطيب دونه..
والبدء والنهاية لا تجمُل إلا بكِ, ومعك قرة العين «إباء».
طابت لكم الحياة قرائي الأعزاء..
آن لهذا القلم الراكض أن يستريح..
ولسوف ألتقيكم بإذن الله بعد إجازة عيد الفطر المبارك..
صوموا بتوفيق الله, وليبارككم حيث أنتم, ويتقبل منا ومنكم, ويحفظكم في أمن وسلام.