أ.د.عبدالعزيز بن علي الغريب
«سنعود إلى ديننا الوسطي الذي كنا عليه قبل أربعين سنة، لن نضيع أي يوم مع التطرف، كنا مثل غيرنا وسنعود».. تلك كلمات قائد التغير الاجتماعي في المملكة العربية السعودية الحديثة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد والشاب الملهم لملايين الشباب من أبناء المملكة، الذين تتجاوز نسبتهم 65 في المائة من العدد الكلي للسكان الذي يقارب (32) مليوناً.
والسؤال المهم كيف تكون العودة والارتداد حالة طبيعية، رغم أن مراحل التغير عادة تتجه للأمام وأن الارتداد هي حالة نكوص سلبية.
فما الذي جعل المملكة العربية السعودية أسيرة لاتجاه ديني محدد تشدد في كل شيء؟ وألغى مظاهر ثقافية كثيرة كان يعيشها المجتمع بمختلف طوائفه وطبقاته؟ ما الذي يمارسه الناس في حياته الاجتماعية قبل ما عرف بـ(الصحوة 1980-2017م)؟ ما الذي كان طبيعياً قصده الأمير الشاب محمد بن سلمان ويقول سنعود إليه؟
إن المجتمع السعودي وبقيادة حكومته وبعد أن استقرت البلاد بشكل تام في 1960م وأصبحت قوة مهمة في المنطقة أخذت في تلك المراحل بالمنهجية العلمية في قراءة مستقبلة فكان الاستعانة بمنظمات الأمم المتحدة لرسم ووضع الخطط الاستراتيجية التنموية للمجتمع السعودي لنقله لمرحلة جديدة في حياته ومسيرته فكانت أول خطة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية عام 1970م، وهي خطوة ضمن مشروع إصلاحي كبير قاده الملك فيصل -يرحمه الله- منذ عام 1964م، وهي خطة خمسية تضمن استثمار مداخيل البلاد -خاصة بعد تدفق البترول- فيما يعود عليها بالتقدم والنماء. فالمملكة العربية السعودية دولة حديثة تأسست عام 1932م، وبالتالي تلك الفترة -مرحلة السبعينيات الميلادية- هي امتداد لمراحل تقليدية سابقة بها وبخطط التنمية تم إحداث النقلة المنشودة والغايات المأمولة. فالمجتمع الفتي كان مجتمعا تقليديا بدويا في أغلب ممارساته وطقوسه وأفعاله الاجتماعية، وكان حديث عهد بالمؤسسات والأجهزة الرسمية الحكومية التي توجهها ليكون مجتمعاً مدنياً. كان مجتمعاً تعلم للتو كيفية التعايش كجماعة، كيف يتحاور مع بعضه، كيف يجلس أفراده على طاولة واحدة من دون خوف أو وجل من بعضهم البعض، كيف يسير الفرد من دون سلاح شخصي يشعر بالأمان من جيرانه، كيف يصادق ويأمن شخصاً مخالفاً له قبلياً ومناطقياً بل ومذهبياً. مجتمع تخلى عن تعدد سلطاته إلى سلطة سياسية ودينية موحدة تقوده للمستقبل أو ما يسمى بسلطة (الاستبداد المستنير) حيث أضحت السلطات التقليدية أو القيادات التقليدية مما عرفها عالم الاجتماع ماكس فيبر رمزية أكثر منها تمارس على أرض الواقع في الحياة العامة. فأوكلت للدولة سلطاتها الرسمية التي يحملها الملك في كل أنحاء الدولة. لذلك ربما من حكمة القدر أن يهب الله للمملكة العربية السعودية قيادة هي التي تقودها للأمام بل وتتحمل عثراتها بدءًا من الملك عبدالعزيز -رحمه الله- (توفي عام 1953م)، مرورا بالملك سعود (1953-1964م ) والملك فيصل قائد النهضة الحديثة (1964- 1975م)، والملك خالد قائد الطفرة الاقتصادية (1975-1982م)، والملك فهد (1982- 2005)، والملك عبدالله (2005-2015)، وعهد الملك سلمان الحالي.
عام 1979م كان بداية الثورة الخمينية في إيران، ثورة كارهة للحياة، ثورة طائفية غارقة في اللاهوتية ونظرية السرداب وانتظار المهدي المخلص، ثورة ورثت دولة قوية متحضرة فأعادتها لسنوات وسنوات فتأثر بمحيطها كثير من الدول ومنها المملكة العربية السعودية، بل تناغمت وتواءمت مع أحداث وأزمات سياسية خلقت مع الأسف مجتمعات مغلقة متشددة في المنطقة ودفعت المملكة العربية السعودية ثمن ذلك مالياً وسياسياً وثقافياً ودينياً. ومع الثورة الخمينية الطائفية كان بداية الجهاد الأفغاني ضد الشيوعية واحتلال الحرم المكي الشريف لمدة 17 يوماً في 1979م من قبل فرقة مارقة عرفت بجماعة جهيمان أو جماعة الحديث المحتسبة، ومن ثم بداية الحرب العراقية الإيرانية، كل هذه الأحداث الكثيرة ضغطت على المجتمع السعودي ليعود مكرهاً للوراء سنوات وسنوات أو تحت مسمى (الجبرية التاريخية).
فلو أحصينا ملامح لنصف الحياة الاجتماعية الثقافية التي كان عليها المجتمع السعودي قبل هذه الأحداث لوجدنا الكثير مما يطالب به أفراد المجتمع اليوم (2018م) كان واقعاً طبيعياً يمارسه الناس في تلك الفترة بكل حرية ومسؤولية.
فدور ومراكز التعليم كانت مفتوحة للجنسين وهناك فصول مختلطة في الجامعات، والعروض المسرحية لا تكاد تتوقف سواء في الجمعيات الثقافية أو الأندية الرياضية أو المسارح التعليمية في الجامعات والمدارس. بل كان لا يختتم أي موسم جامعي أو رياضي إلا وهناك عروض مسرحية وحفلات غنائية من المطربين المحليين أو من الخليج والعرب يختتم بها العام الدراسي ويكرم فيها المميزين والمتفوقين.
وكان تدريس اللغات يأخذ نصيباً كبيراً، ولم يكن التعليم يقتصر على إضافة اللغة الانجليزية في المرحلة المتوسط والثانوية، بل كانت هناك تدريس للغة الفرنسية في المرحلة الثانوية، وكان يقوم بتدريسها من أبناء تلك البلدان. وكانت المناهج الدراسية شبه خالية من التمييز الديني والطائفي حاثة على التجاور والحوار والسلام. وكان تعليم التربية الفنية للفنون المختلفة مزدهراً وكانت التربية الفنية مقرراً رئيساً يجب اجتيازه وكان رسماً ونحتاً.
وكانت الانتخابات لاختيار عمداء الكليات ورؤساء الأقسام عرفاً أكاديمياً في تلك الفترة حتى استخدمت الاستخدام السلبي ونحت بالمعايير الأكاديمية والجامعية لتدخل المعايير والأيديولوجيات الدينية مكانها وتفرز نماذج لا تمثل المهارة والقدرة الأكاديمية.
ولم يكن قد بدأ تأثير الجماعات والأيدلوجيات الدينية في التعليم بعد ربما لأسباب أنها كانت في بدايتها أو قوة السلطة في التعامل معها، أو عدم تقبل الناس لفكرة التشدد بحد ذاتها.
وفي المجال الإعلامي والفني مثلاً كانت الحرية الإعلامية أكثر تطبيقاً خاصة فيما لا يخالف الأركان والأحكام الإسلامية المتفق عليها، حيث نجد مثلا كانت المجلات تدخل السوق السعودي بأغلفة موحدة كما تدخل أي بلد آخر بينما من بعد 1980م كانت المجلات تدخل السوق السعودية بأغلفة خاصة يحظر فيه صور النساء. إضافة إلى ما يعرضه التلفزيون السعودي في قنواته من مسلسلات وأغاني وحضور للمذيعة كاشفة لوجهها دون تمييز وكانت الحفلات التي يقدمها التلفزيون السعودي موعداً يلتف فيها أفراد الأسرة للتسامر والسمر أمام التلفاز، بل كان هناك مسرح عرف بمسرح التلفزيون يؤدي فيها غالبية المطربين وصلاتهم الغنائية وكان لاكتشاف المواهب الفنانية ومنطلقاً لبداية مسيرته الفنية بحضور جمهور ذواق للفن وتسجل وتثبت عبر أثير التلفزيون لاحقاً..
إضافة إلى العروض السينمائية التي كانت تعرض في نهاية الأسبوع أحدث الأفلام العربية والأجنبية (توقفت السينما عام 1980م) وأعيد نشاطها في شهر أبريل 2018م.
وكانت الصحف والمجلات تتضمن إعلانات للفعاليات التي تقيمها الأندية والمطاعم وكان اسم (الكازينو) شائعاً، يتسامر فيها أفراد المجتمع، متضمناً فواصل غنائية وحفلات غنائية، وألغي هذا المسمى بل حذف من قائمة الأنشطة التجارية ذاتها. وبالتالي لم تكن الممنوعات الثقافية كثيرة جداً كما هو الحال بعد 1979م.
وعلى مستوى الحريات الدينية كانت حلقات المذاهب السنية الأربعة منتشرة في المسجد الحرام والمسجد النبوي بل بعض الصلوات تقام لكل من يتبع المذاهب ذاتها. كذلك الحال في انتشار حسينيات المذهب الشيعي ومساجد المذهب الإسماعيلي فكانت تمارس شعائرهم بطريقة واضحة دون خوف بل وتقبل من أفراد المجتمع وكانت الإخوة والجيرة والصداقة مقدمة على التمايز المذهبي.
وباسم الحرية المذهبية كانت الممارسات والطقوس الصوفية واقعاً يمارسه أصحابها خاصة في المناطق الحضرية التقليدية كالحجاز والأحساء وجازان وكانت شعائرها وبعض ممارساتها تنظم بشكل واضح.
وكانت المجمعات السكنية تشهد حرية دينية لأصحاب الأديان الأخرى من دون منع أو متابعة، خاصة إذا ما علمنا أن غالبية الشركات الكبرى التي تعمل في مجال البنية التحتية في تلك الفترة -السبعينيات الميلادية وما قبلها- هي شركات من دول غير إسلامية وغالب عمالتها من غير المسلمين مثل الشركات الكورية والأوربية والهندية، إذ لم يكن يشترط نسبة معينة من العمالة المسلمة كما هو الحال ما بعد 1979م.
حيث كانت تقليدية السلطة الدينية واعتبارها جزءًا من النسيج الاجتماعي وليس كما هو حال بعد ذلك النظر لها حاكما ومتحكما في أفراد المجتمع ويمتلكون سلطة لا يحدد مداها بل كانت النظرة لهم من التبجيل والتقديس بما يفرقهم عن غيرهم قد يصل إلى تأليههم.
هذا على الرغم من أن مسؤول الفتيا والشؤون الدينية الأول في تلك الفترة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ هو أحد أحفاد الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- داعية الإصلاح والدعوة الشهير في المملكة العربية السعودية الذي ارتبط تاريخه بتاريخ بدء تشكل الدولة السعودية الأولى عام (1744-1818م) مع الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى وباني حضارة الأمة السعودية الحديثة.
ورغم ذلك كان المجتمع السعودي مجتمعا متدينا بشكل كبير خاصة في ممارسة شعائره الدينية من صلاة وصوم وزكاة وحج التي تمثل الأركان الرئيسة للدين الإسلامي الحنيف وما اتفقت عليه المذاهب السنية في الحلال والحرام من دون تمييز مذهبي، بل كان الوصم الاجتماعي يلاحق كل مقصر، ويخشاها من يمارس ما يعرف بالمعاصي الدينية، مثلا كان هناك نظام تقليدي متفق عليه الناس وهو أداء الصلوات في المساجد جماعة خاصة صلاة الفجر مثلا وكان هناك نظام اجتماعي وهو ما يعرف بـ(قراءات أسماء المصلين) ممن بلغوا سن 12 سنة، وكان الأب يسجل أسماء أبنائه في مسجد الحارة والحي الذي يقيم فيه. وكان رجل الحسبة أو ما عرف برجل (الهيئة) أو ما عرف (بالشرطة الدينية) في الكتابات الغربية، محبوباً ومقبولاً من أفراد المجتمع بل كان مصدر الثقة لقيمه وأخلاقه وكان يمثل السلطة الأخلاقية في المجتمع حاثا عليها مرغبا بها خاصة في ممارسة الشعائر الدينية دون فرض وممارسة للقوة التي لم يعرفها المجتمع السعودي إلا بعد انغلاقه شبه الكلي في منتصف الثمانينات الميلادية من قرن الماضي.
وهذا يؤكد أن كثيرا من ممارسات التشدد والتوحشي الديني إن جازت التسمية والانغلاق الثقافي ما هي إلا نتيجة الاتصال الديني بين أفراد من المجتمع السعودي مع غيرهم من المجتمعات الإسلامية في مصر والباكستان وأفغانستان وغيرها أكثر منها ممارسات ذات نشأة محلية، إضافة إلى بدء تأثير تغلغل العرب الوافدين المؤدلجين للسعودية جراء معاناتهم في دولتهم والتضييق عليهم من حكوماتهم واستضافتهم بحسن نية المملكة وبدء تغلغلهم في المناهج الدراسية والمناشط الدينية وحضورهم القيادي المباشر وغير المباشر في تلك المجالات.
وعن مكانة المرأة كانت تلك الفترة تمثل بداية النهضة التعليمية للفتاة السعودية خاصة في الجامعات والمعاهد العليا بعد افتتاح الأقسام النسائية لهن في منتصف السبعينيات الميلادية سواء في المرحلة الجامعية والدراسات العليا، التي كان بعض محاضراتها يلقيها الأساتذة الذكور مباشرة داخل قاعة وليس عبر دائرة البث التلفزيوني، وكانت المرأة تكتب باسمها الحقيقي في الصحف والمجلات دون الحاجة إلى اسم مستعار.
وكانت بذور المؤسسات الخيرية في تاريخيتها نسوية النشأة، ولم تكن تلك الجمعيات تمثل مؤسسات وجمعيات خيرية فقط بل كانت أشبه بصالونات ثقافية ومدنية.
وكان غطاء المرأة يحظى بالاحترام والتقدير وكان في أغلبها وفي كل المناطق يتكون من اللثمة لنصف الوجه أو غطاء خفيف يغطي ملامح الوجه بشكل عام ولم يكن النقاب كما هو في مرحلة الصحوة الدينية (1980- 2017) معروفاً أو منتشراً، بل حتى العباءة كانت تغطي نصف الجسد تقريباً، وكان الغطاء لا يفرض على غير المسلمة أو حتى غير السعودية، وكانت الحرية مكفولة لهن في الأسواق ولا تجبر على ذلك.
هذه بعض الممارسات الثقافية في المجتمع السعودي ما قبل 1979م وهي عناصر ربما يراها القارئ الغربي تقليدية وكلاسيكية وطبيعية ونحن كذلك نراها إلا أن الأحداث الخارجية التي وقعت في منطقتنا أسهمت في جعله واقعاً وعودة الحياة الطبيعية سنوات إلى الوراء.
لكننا كما يقول علماء الاجتماع (المجتمعات العتيقة تمرض لكن لا تموت) وهذا هو المجتمع السعودي مجتمع عتيق وفي منطقة جغرافية هي منطلق الحضارة الإنسانية ومهد الأديان والثقافات، كان من الضروري أن يهبه الله قيادة جديدة تعيده لمساره الطبيعي ليمارس دوره في الحياة كمجتمع إنساني مع غيره من المجتمعات ليسهم في الحضارة البشرية ونتاجه الثقافي والإنساني.
تلك عناصر ثقافية كانت ممارسة في حياة المجتمع السعودي عرضت واصفاً راصداً وليس محلّلاً مفسراً لها، هي مرحلة أظنها في مرحلتها الأخيرة تم وضعها على المستوى الرسمي ولتصبح ماضياً في مسيرة المجتمع.
** **
الملحق الثقافي السعودي في إيطاليا - بروفيسور التغير الاجتماعي والثقافي