تهاني فهد الخريجي
كعادة جامعة بوستن في التنظيم والترتيب، تم إرسال الخطة الدراسية لفصل الربيع من قبل سوزان المشرفة على برنامج التطوير المهني النوعي الذي تقوم به الوزارة (خبرات، 2018) في دفعته الثانية من أجل تطوير التعليم، ونقل خبرة التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية إلى بلاد الوطن، تمشيا مع رؤية 2030 وسعيا إلى تحقيق أهدافها. كان هذا هو الأسبوع السابع بعد مجموعة من الساعات المكثفة لتعزيز اللغة الإنجليزية. فعلى الرغم من قوة لغة البعض واشتراط مستوى متقدم من اللغة الإنجليزية للتأهيل للبرنامج؛ إلا أن دعم اللغة وممارستها عنصر مهم وأساسي عندما تكون من معلمين لغتهم الأم هي الإنجليزية بدون شك.
اشتمل هذا الأسبوع على مجموعة من المحاضرات المتفرقة والأنشطة المتعددة، ولكن مما لفت نظري محاضرة مع البروفسور كريس مارتيل حول المدنية العالميةGlobal Civics. فدار في خلدي الكثير من التساؤلات والأبواب التي قد يتحدث عنها البروفيسور، فهي قد تكون عن التمدن والتحضر في العالم، أو معالجة مشاكل عالمية بيئية أو ربما سياسية، وقد يكون بعيداً عن كل هذا ويتحدث عن العولمة!
قبل بداية المحاضرة دخل شاب يبدو أنه ثلاثيني وبابتسامة لاتخلو من خجل الأدب الجم، حيا الجميع وبدأ يجهز جهاز العرض الخاص به وينظم أوراقه ثم اعتذر مستأذناً بداية المحاضرة في الوقت المحدد تماما، وبعد تعريفه المتواضع عن نفسه وتضمينه في التعريف عن نفسه عما سماه (Fun fact) ذكر بكل روح بسيطة أنه يتقن العزف على آلة موسيقية كجانب آخر وعفوي من شخصيته. العجيب في الأمر أنه لم يستحضر قائمة من منجزاته ولا شهاداته ولا حتى تدرجه للحصول على درجة بروفيسور، بل اكتفى بما هو مفيد لنا: بروفيسور في كلية التربية ومعلم علوم اجتماع سابق في الثانوية العامة. وانتهى! تعجبت كيف أنه لم يجعلها فرصة لفرد عضلاته على مجموعة من المعلمين والمعلمات لفرض سيطرته المهنية في تلك اللحظة؛ حتى عندما أتيحت له الفرصة لذلك الاستعراض بسؤال البعض عن صغر عمره مقارنة بدرجة البروفيسور العلمية التي يمتلكها؛ رد بابتسامة و شكر على الإطراء ثم أجاب: «أنا أمتلك وجها طفوليا فحسب «.!
بدأنا المحاضرة بمناقشة مجموعات صغيرة حول السؤال الذي طرحه البروفيسور كمقدمة للمدنية والمواطنة في التعليم في المملكة العربية السعودية: كيف يتم تعزيزه في المدارس؟!
أخذنا نستعرض العديد من المظاهر الحقيقية في تعزيز هذا المفهوم في المدارس ابتداء من السلام الوطني الذي يعتبر شرطا لافتتاح اليوم الدراسي في جميع المراحل، ومرورا بتدريس منهج الوطنية لمدة سنوات للبنين، فضلا عن بعض الأنشطة التي تحفظ الأجيال من الأفكار الضالة أو الإرهاب في برنامج فطن وغيره من البرامج التي تهتم بإصلاح الفكر وحمايته من أجل تحقيق مواطنة صالحة. الحقيقة أننا وجدنا العديد من الخطوات الإجرائية داخل الصف والمدرسة لتعزيز هذا المفهوم، منها اشتراط تضمين الحصة على هدف تحقيق قيمة المواطنة لجميع التخصصات في كل درس. وذكرنا أن المواطنة الصالحة في بلادنا الرشيدة ماهي إلا انعكاس سلوكي لتعاليم ديننا الإسلامي في طاعة ولي الأمر وحفظ ضروريات الحياة الخمس وغيرها من المفاهيم الدقيقة التي تنطلق من (حب لأخيك ماتحب لنفسك)، وتنتهي بـ(إماطة الأذى عن الطريق صدقة).
وكانت أول نقطة أثارت حرجاً وجدته في نفسي في المفهوم الحقيقي لقيمة المواطنة، عندما ذكرنا له أننا نحتفل في المدارس باليوم الوطني، فسأل وماذا تقدمون للوطن في هذا اليوم؟! استرجعت بشكل سريع الاحتفال الجميل الذي نعده كل عام في المدرسة بهذه المناسبة لمجرد الاحتفال فقط، دون تقديم شيء حقيقي من الطلاب ولا من منسوبي المدرسة يعزز هذا المفهوم؟!، فانفتحت شهيتي لمحاضرة كريس أكثر وأصبحت أتطلع لما قد يكون فعالاً وحقيقياً في تقديم مايخدم وطني، وغرسه في الطالب كمواطن صالح ومسلم حقيقي. ولاسيما أننا نجد تلك الفجوة الحقيقية في تحقيق هذه القيمة العظيمة في جميع مظاهر ادعاء الانتماء لها وبشدة، فعلى الرغم من كل الجهود في تعزيز هذه القيمة؛ لم تختف مظاهر الفوضى والتخريب في الشوارع والاستهتار بالمال العام في يوم الاحتفال باليوم الوطني نفسه!
فكيف ستعبر عن حبك وولائك لوطن تكسر إناراته العامة او ترمي في الطرقات مخلفات القمامة أو تفسد منافذ خدمات عامة متاحة للجميع لمجرد أنها مجانية أو أنه مال حكومة! فلا زلت أذكر الفوضى العارمة التي اقتلع بها ثلة من الشباب المستهتر الشاطئ العالمي الجميل الذي رتبته الحكومة الرشيدة في الواجهة البحرية في مدينة جدة، فهم وإن كانوا لا يمثلون جميع فئات المجتمع لكن هذا بلا شك يعطينا مؤشرا بالخلل الحاصل.
وتبادر سريعاً إلى ذهني حينها غياب ذلك التطبيق العملي حتى عندما تكون المصلحة منصبة على المواطن ذاته. ففي حين فرضت القوانين التي تحاول الدولة أن تحمي فيها المجتمع من نفسه، وتقلص عدد الوفيات التي تتسبب بها حوادث السيارات والسرعة المتهورة، كإحدى الدول التي تحمل نسباً عالية في ذلك النوع من الوفيات تحديداً، فإنه لا يوجد تفاعل حقيقي للغاية من ذلك القانون، ولاحتى في سبيل تعزيز مواطنة صالحة في العقوبات المقترحة من أجل حماية المواطنين أنفسهم.
شرع كريس يكمل أنواع المواطنة المدنية والصالحة بعد مناقشته النقاط التي تحدثنا حولها؛ فذكر أنها ثلاثة أنواع: على المستوى المحلي: بيئتك، مدرستك، مدينتك، أو حتى حيّك. ثم على المستوى الوطني: خدمة وطنك وانتماؤك الحقيقي لهويتك، ثم على المستوى العالمي: كشخص متمدن فعال بشكل حقيقي لك ولغيرك ممن يشاركك هذه الكون الفسيح!
فهناك الجزء المعرفي والجزء المهاري لتحقيق أهداف كل مستوى، ومن هنا بدأنا نقلص مع أنفسنا عدد الفجوات الموجودة في مجتمعنا ونفكر بجدية بحلول تنطلق أولا من الجوانب المعرفية لتعزيز قيمة المواطنة الصالحة ثم الحديث حول الجوانب المهارية والسلوكية. تم مناقشة بعض منها في مجموعتنا الصغيرة حول المعارف التي قد تساعد في تحقيق أهداف المواطنة مثل معرفة المواطن حقوقه وواجباته، القوانين والعقوبات؛ ومن ثم اتجهنا إلى بعض الجوانب السلوكية التي من شأنها تطبق تلك المعرفة بشكل عملي. وتناقشنا طويلا حول بعض الأعمال التي تصب في الإحساس بالمسؤولية والانتماء للآخر.
وأدركنا أننا كنا على حق في موضوع المسؤولية والانتماء، لأن اللامبالاة تورث الاستهتار بجميع مناحي الحياة، وتكون عائقاً أمام كل تطور حقيقي في المجتمع، ولاسيما بعد العرض الذي قدمه لنا كريس حول مجموعة من الطلاب في مختلف الدول (كأمريكا وفرنسا والسنغال والهند وماليزيا والأردن وكولومبيا وبعض دول أفريقيا وغيرها من الدول) و مشاركتهم الفاعلة في خدمة وطنهم. اشتمل العرض على شباب صغار في السن وطلاب عرضوا العديد من المشكلات التي يمر بها مجتمعهم على مختلف الأصعدة، في محاولة إيجاد حلول حقيقية حولها.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية تناقش الطلاب حول مشكلة المسبب الأكبر للموت على مستوى العالم وهو أمراض القلب، وعلى الرغم من صغر سنهم إلا أنهم على وعي وثقافة وعلم بمسببات أمراض القلب تنبيك عن إحساس عال بالمسؤولية والتصاق قوي بالكتب والاطلاع والتعليم الذاتي. وبدأوا ينددون بالوجبات السريعة وخطرها على القلب والطعام غير الصحي ويتكلمون بكل قوة عن انتمائهم لمستقبل يستحقون العيش فيه بصحة جيدة لهم ولأبنائهم، و أنه من الضروري البحث عن علاج لمشكلة الأكل غير الصحي. وقد لاتتعجب إن وجدت في المستقبل العديد من المنظمات التطوعية يقودها أولئك الصغار الذين شعروا بمسؤوليتهم في التحسين من صحة أفراد مجتمعهم، وهو الأمر الذي استجابت له ولاية ماساتشوسز MA حيث مدينة بوستن المعروفة بتقدمها الطبي على مستوى العالم، وغيرها من مدن الولاية تكاد تخلو من مطاعم الأكل السريعة التي انتشرت في كل مكان في العالم، ومن المفارقات العجيبة ان هذه المطاعم انطلقت من أمريكا نفسها. إلا أن هذا لم يمنعهم من تقليص عدد تلك المطاعم فضلا عن تقليل نوع الخدمات المقدمة منها، فلا يوجد على سبيل المثال خدمات الطلب من السيارة في تلك الفروع المحدودة، وهو الأمر الذي يحد من اعتماد الناس عليها بكل كسل واتكالية. كل هذا في محاولة في الحد من انتشار أضرارها الصحية في إطار الاستجابة في النهاية لمجموعة من الناس شعروا بمسؤوليتهم الحقيقية اتجاه مشكلة صحية في مجتمعهم.
في ذلك العرض كان الطلاب يستعرضون مجموعة من المنجزات التي استطاعوا المساهمة في تحسين مجتمعاتهم من خلالها في تعبير حقيقي عن انتمائهم ومسؤوليتهم اتجاه الوطن الذي يستحقون العيش فيه. ففي كل مرة يعيش الطالب مشكلة حقيقية في المجتمع ويبحث عن حلول مناسبة يساهم فيها حتى ولو كان على المستوى المحلي الصغير فحسب كأداء واجب، وليس أقل من توعية الآخرين بتلك الحلول. فعلى سبيل المثال ناقشوا مشكلة الماء الملوث في أفريقيا، وطلاب آخرون بحثوا حول مشكلة العنف الأسري، وغيرهم في مكان آخر كانوا أفراداً فعالين في المطالبة بتوفير خدمات لأصحاب الاحتياجات الخاصة كأشخاص يستحقون حياة كريمة كغيرهم، وغيرهم حول مشكلة التدخين، النظافة، العنصرية، السمنة، بل بعضهم كان يتحدث في مجتمعه في إحدى الدول عن حل حقيقي لمشكلة الإزعاج الناتج من موقع الكازينوهات داخل الأحياء السكنية.
تحدث كريس المحلل البريطاني مايكل قرين حول الأهداف العالمية في (Global Goal) والتي تتضمن الأهداف التي تم الاتفاق عليها من قادة العالم عام 2015، و التي يمكن السعي إليها بشكل محلي ومن ثم وطني لتحقيق نسبة عالمية للعيش في عالم أفضل بحلول عام 2030. فذكر مايكل أنها وإن كانت تعتبر إنجازا حقيقيا لتحقيق حياة أفضل يطمح إليها كل من يشاركنا في هذا الكوكب؛ إلا أنه اشترط شرطاً واحداً فقط لحدوث ذلك وبلوغ أعلى نسبة لتحقيق تلك الأهداف، وهو أن يزدهر التقدم الاقتصادي بالتزامن مع الحضارة الاجتماعية. وهو مفهوم دقيق يعني ببساطة يمكنني شرحه بأنه مالم يتواز التقدم مع الحضارة فإننا سنجد من يقود سيارة فارهة ولكنه لايتقيد بإشارات المرور، وبمعنى آخر ألاتملك المال كمؤشر للتقدم بدون القيم الإنسانية كمؤشر للحضارة لتكون متمدنا حقيقيا.
تألمت كثيراً عندما عرض كريس تلك الأهداف العالمية، وهي الأهداف التي انطلقت منها وزارتنا الكريمة هذا العام 2018 في برنامج الجودة، بل واقتبست فكرة الشعار الرائع للجودة في التعليم في هذا العام من تلك الأهداف؛ ماآلمني أنني تذكرت نسبة الطلاب الذي يجهلون حقيقة ذلك الشعار، ولايوجد في أهداف التعليم مايتضمن دراسة الطلاب لتلك الأهداف العالمية السبعة عشر وإلمامهم بها والمشاركة في تحقيقها عمليا في حياتهم الواقعية. على الرغم من كونها أهدافا عالمية مهمة تعي وزارة التعليم قيمتها، واقتباس شعار الجودة منها أكبر دليل على وعي الوزارة في التعليم بأهمية تلك الأهداف ومحاولتهم للمساهمة بها، لكن السؤال القائم لماذا يتم كل هذا بمعزل عن الطالب وهو المستهدف الأول في العملية التعليمية لبناء جيل واع يحمل مسؤولية عظيمة لتحقيق المواطنة الصالحة!
من الممكن جداً أن تصبح الفصول الدراسية واليوم الدراسي منطلقا فعالا في تحقيق المواطنة الصالحة عن طريق النزول إلى واقع المجتمع، وتلمس مشكلاته من خلال العقلية الشابة في الطلاب والطالبات، والعمل بخطوات إجرائية تعلم الطالب مهارة البحث والاطلاع، وتحببه في القراءة والتلخيص والتفكير والنقد، واكتساب المهارات الحقيقية التي يمكن أن تخدمه في مستقبله. وأنا كلي ثقة في همة وروح الشباب للمشاركة في تحقيق تلك الأهداف وحل المشكلات طالما أن ذلك يشعره بأنه إنسان فعال، ومنتج، وذو أثر.
في الختام، أنا لا أشكك بحب مواطني هذا البلد المعطاء لترابه، ولا أتحدث عن ولاء حقيقي في قلوب أبنائنا وإخواننا وأجيال متتالية لوطنهم، فهو من الفطرة بمكان، فإذا كانت مواطن السوء مقدمة على غيرها استجابة لهذه الفطرة كما ذكر عثمان بن عفان رضي الله عنه « لولا حب الأوطان لهجرت مواطن السوء» فكيف بوطن دعا له إبراهيم عليه السلام أن تهيم به العقول وتتعلق به القلوب في أطهر البقاع على وجه الأرض، مع حكومة رشيدة قيضها الله لخدمة أبنائها وجميع المسلمين حول العالم.
وهو فخر عظيم نستشعره بأنفسنا ونجد الغبطة لكل من يقابلنا وفي كل مرة يتم سؤالنا عن جنسيتنا في بلاد الخارج؟
فنجيب بفضل منحنا الله إياه، وتميز الولادة بفي ممتلئ بشبعٍ من ملعقة ذهبية، أننا بكل فخر: سعوديون.
** **
ماجستير المناهج وطرق التدريس - بوستن - خبرات أمريكا