سهام القحطاني
قلت في الموضوع السابق من هذه السلسلة «وهم نخبوية خير أمة» إن الصراع الثقافي الذي فتت وحدة الخلافة الإسلامية كان أساسه قائماً على «التمييز العرقي» الذي كان جزءاً من الطبع العربي، الذي تبلور بعد «الغزو الإسلامي» لمناطق العالم القديم من خلال «جملة المصطلحات» التي سعت إلى «حماية أصل الهوية العربية» من الاندماج مع الآخر من خلال حاجز التعصب، حتى وإن كان ذلك الآخر ينتمي إلى ذات العقيدة، وهو ما يعني أن العرب لم يؤمنوا قط بمبدأ «الإسلام أولاً»، بل «العرب أولاً».
وهذا التقديم للعرقية قبل العقيدة هو الذي شكّل قاعدة «التمييز العنصري» في المجتمع العربي وحوّل المسلمين من غير أصول عربية إلى مواطنين من الدرجة الثانية.
والأخطر أن ذلك التحوّل لم يكن قاصراً على مستوى صناعة القرار السياسي والثقافي، بل أصبح عقيدة اجتماعية وثقافة مجتمع بفضل مجموع المصطلحات التي انتشرت في الثقافة الشعبية وارتبطت بعدائها للإسلام والعرب وثقافتهم وذلك الارتباط وما أحاطه به من تلفيقات مغلوطة وتشكيك في نية الشريك الاجتماعي كان المقصد منه تصفية الآخر والمختلف من غير الأصول العربية وتحويلهم إلى قطط بدون مخالب لتعزيز التفوق والاستعمار الثقافي.
ولم يكن صانع القرار السياسي أو الثقافي في ذلك الوقت يستطيع تصفية عدوه الثقافي أو المذهبي أو الفكري إلا من خلال صناعة صورة أو تمثيل إجرائي، يحشد من خلالهما الذهنية الشعبية لانتزاع موقف ضدي من ذلك العدو، ولم يكن ذلك متاحاً إلا من خلال صناعة «مصطلح»، وتعميده دينياً، تلك المعمودية التي تُمكن من الهيمنة على الذهنية الشعبية وتتحكم في إصداراتها الفكرية والسلوكية والوجدانية.
إن الوقوف مع الشيء في رمزياته المختلفة «أشخاص، أفكار، مواقف، أحكام» أو الوقوف ضده هو حاصل المعايير التي تختزنه عقيدته.
وتتشكل تلك المعايير عبر «دستور لفظي» تتحرك في ضوئه الذهنية العامة بإصداراتها المختلفة، من خلال جملة «المصطلحات» التي أصبحت تمثل تاريخاً نسقياً في تلك الذهنية لحالات الخلاف والتقاطع، مثل:، علماني، ديني، ليبرالي، تنويري، ظلامي حداثي، محافظ، تكفيري شيعي، سني...
وسلسلة من هكذا مصطلحات تُقسّم الخطاب الثقافي والفكري إلى ثنائيات ثقافية متضادة بالقصدية والنفعية لا بالطبيعة، لسعي كل منها إلى غلبة الآخر من خلال تجذير قيمة الأحادية المطلقة، وصلاحيتها الفكرية المتنامية وملكيتها لجدار آمن مستديم.
ثنائيات تسعى إلى استعمار ذهن المتلقي واستثمار جماهيريته ورمزيته الكمية لانتزاع «الشعبية» لتقرير وهم النخبوية بالنسبة للآخر.
لكن الوصول إلى ذلك الانتزاع لا بد أن يمر من «باب المصطلح»؛ لأنه حلقة الوصل بين المفهوم وقالب التمثيل، لأنه الأسهل في تطبيق الشواهد وإيجاد سند للمجال الدلالي لمعيار التهمة أو الذنب، والأقوى في اختزال الأحكام الذي غالباً ما يمزج من خلالها الحق بالباطل.
وهو ما يحّول المصطلح بالتقادم إلى «علامة ثقافية» يتأسس في ضوئها «الفقه الثقافي» بحيث تحبس الثنائيات الثقافية في جدلية الحلال والحرام.
وبذلك يصبح المصطلح هنا هو السلاح الأقوى في معركة الثنائيات الثقافية المتضادة؛ لأنه هو الذي يتحكم في تحويل المفاهيم إلى كيانات ثقافية ذات سلطة ويشكل لها زيّها الثقافي أمام المتلقي لتثبيت تاريخ ذلك المصطلح.
ومن هنا يبدأ دور «المصطلحات» في معركة الصراع الثقافي وزرع وهم النخبوية؛ كونها «ممثل الأصح» وتفاصيل جدولة التمييز ضد الآخر أو المختلف.
تنبني مواقفنا وأحكامنا نحو أنفسنا والآخرين بمعطيات التفضيل والتمييز وبالتالي ما يترتب عليهما من «نخبوية» من خلال الخصائص والقيم وطريقة التفكير ومجموع السلوك التي تمثلنا ونمثلها مقابل كل تلك الأشياء التي تمثل الآخر ويمثلها.
أقول تنبني من خلال «المصطلحات» إذ هي القادرة على «صناعة التنميط» و«النسقية المحيطة بها».
وذلك طبيعي؛ لأن تحويل المصطلح إلى علامة ثقافية لا يتم إلا عبر التنميط «التداول المستقر شكلاً ومضموناً» والنسقية «الشيوع».
وبذلك يمكن القول إن «صناعة المصطلح» لا يمكن تبرئتها من «حس أيديولوجي» يتدخل أثناء تلك الصناعة لمقاصد قريبة أو بعيدة المدى.
وبهذا المسار فالمصطلح يقوم بدوره على «صياغة خطاب» بأبعاد عدائية نحو المختلف، تقسّم الخطاب الثقافي إلى خوارج خلافية و»مضادات ثقافية» تفتت وحدة الهوية وتزرع الفتنة والطائفية، وبذلك تقود تلك الأبعاد في نهاية المطاف إلى التمييز والصراع وتهديد السلم الاجتماعي والثقافي.
وهذا المسار الأيديولوجي في صناعة المصطلح وما يترتب عليه من صياغة خطاب متطرف هو الذي يسهم بصورة مباشرة في «نشأة الكيانات الثقافية» التي تحولها إلى «علامات ثقافية» وتُؤسس لها لاحقاً «إطاراً نخبوياً» يمارس وصاية فكرية على ذهن المتلقي.
والعلامة الثقافية كونها هوية الكيان الثقافي تقوم بدور خطير في التحكم في المجال التداولي للمتلقي وهذا التحكم هو الذي يقود الإقصاء والصراع.
وهو تحكم غالباً ما يقوم على جملة من «الاستدعاءات» والمجاورات الشرطية التي تهدف إلى «خداع المتلقي» لانتزاع حكم أو ردة فعل تؤكد تبعيته وموافقته للصراع المحتمل أو الواقعي؛ لإيهامه «بمقتضى الانتساب»، ذلك الإيهام الذي يهدف إلى توسيع نطاق الكمية ومرفقاتها الوجدانية.
ولذا ارتبطت «العلمانية والحداثة والليبرالية» لدينا كسعوديين «بالكفر» كما ارتبط في المقابل «التقليدي والمحافظ والديني» «بالتطرف والرجعية والتخلف».
وهكذا فإن كل مصطلح له علامته الثقافية وارتباطه التنميطي وتداوله النسقي.
وكأن أي مصطلح لا يمكن استمراره إلا بعد اختفاء المصطلح المُشكّل لثنائيته.
تُصنع المصطلحات في ضوء العديد من الأهداف غير الهدف المٌصرّح بها؛ كونها «وسيلة تعريف وتوصيف».
من أهم تلك الأهداف تحولها -المصطلحات- إلى مقتضى لتشريع الصراع والإقصاء والاستغلال والاضطهاد والخوف من الآخر.
كما تهدف إلى «تزييف انتساب العلامة الثقافية» لشعب أو تاريخ أو مجتمع، وذلك التزييف ينبني عليه صراع الأمم والشعوب.
وتهدف إضافة إلى ما سبق إلى زحزحة الاستحقاق المكتسب العام «للعقل الفكري» الذي يتساوى فيه الجميع، ليصبح استحقاقاً محصوراً بالفئوية، وهي حصرية كما أنها داعمة للفئوية فهي موّلدة للنخبوية والطبقية الفكرية ما بين الخواص والعوام.