علي الخزيم
الجد المسن ما زال بكامل قواه ونشاطه الجسماني، كما أن ذاكرته ومداركه العقلية تنبئ عن حضور جيد، غير أن نفسيته ومزاجه لا يشي بارتياح كامل لما يدور حوله، لا سيما فيما يتعلق بالسلوكيات الغذائية من جيل (كافيه لاتيه) وهي القهوة بالحليب بالطريقة الإيطالية، وكذلك الاندفاع التسوقي وتكرار ارتياد الشباب للأسواق والنساء بأطفالهن لشراء ما لا يلزم وإهدار المال دون توازن يحفظ ريالاتهم لأيام قد تكون بالنسبة لهم عصيبة بما يستجد من أمور تستدعي توفير مبالغ كانت تصرف دون قياس منطقي ولا حساب لقادم الأيام بما تحمله من مفاجآت مزعجة.
الرجل الحكيم عركته التجارب، وأرهقت نفسه مشاعر الحرمان بسنين مضت ذاق خلالها شح الماء والغذاء في بيئة فرضها واقع الحال آنذاك بسبب عدم امتلاك تلك الأجيال إمكانات استثمار الموارد التي أمام أعينهم ويعجزون عن النهل منها، العقول تدلّهم عليها غير أن الأيدي تقصر عن تذليلها والاستمتاع بخيراتها، أكلوا ما يمكن أكله في إطار من مباحات الشرع، وتنقل القصص الاجتماعية عن أولئك الأخيار أنهم بحالات ومراحل من زمنهم قد تجاوزوا وأغمضوا أعينهم قليلاً عن حدود المباح وتوسعوا بهوامش أباحوا لأنفسهم فيها أكل المتردية وشبه الميتة، بل إنهم أكلوا شواء الجلود وسحقوا العظام طلباً لبقايا الزفر، بل إن منهم من شارك الدواب في طعامها من ناعم النباتات والأعلاف، قلت لمحدثي: كانوا يأكلون الجراد بموسمه كوجبة بروتينية؛ وكذلك الضب والجربوع! فتغيرت ملامح وجهه وهو يرمقني بنظرات تقرأ أفكاري ومدى معرفتي بظروف الأجداد؛ وأردف بلهجة دارجة مُفعمة بالمتعة إذ إنها تصدر من مُخضرم جاس خلال الديار وسَبَر أوضاع عقود أمضاها بجنبات جزيرة العرب منحته خبرات لا تجارى؛ قال ما معناه: أنت تتحدث عن عقود الرخاء النسبي فالجراد غالباً يزورنا أيام الربيع وإخضرار الفيافي وينعم (الحلال) المواشي والأنعام، ويطيب لحم الضب والجربوع، والجراد حينها يكون كالفاكهة سواء كان مشوياً أو مطهياً بالبهارات، وفي الربيع حينما تجود السماء بالغيث يكثر الدرُّ والألبان ومنها تتوفر الزبدة والسمن والإقط وتتحسن صحة القوم لاسيما إذا توفر مع هذه النعم التمر، هناك تزداد الألفة والمحبة والتواد بين أهل القرى؛ ذلك أن امتلاء الجوف بالخيرات يجعل النفس أطيب والمشاعر أرقى وأقرب للوئام والحب، كما أن أهل البادية يفدون للقرى للتبضع ومقايضة مشترياتهم بما يجلبونه من أطيب الأغنام والسمن والإقط، فتلك أيام رخاء ومع ذلك لا تجد من يسرف أو يبذر بالنعم، لأن الناس ذاقت صنوف الفقر والفاقة أزمنة متقطعة؛ ويروون للأجيال أحوالهم فتعتبر الأجيال وتحافظ على مقدراتها.
يرى المتحدث أن جيل اليوم لا يقارن بأجيالهم الكادحة من قبل الفجر إلى مغيب الشمس طلباً للرزق وبقدر الجهد يكون الحفاظ على مكتسباتهم، وينصح أمهات وأبناء اليوم أن يعتبروا بمن قبلهم (ومن حولهم)، وأن يختصروا مصاريفهم بقدر دخلهم والتوفير للمستقبل، وقال: الصيف يحل علينا وتؤلمني المسارعة للسفريات وتكليف ميزانيات الأسر ما لا تطيق وبما لا يلزم.