أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: إلحاقا بما سبق في السبتية السابقة : اعلموا أن هناك نصا صحيحا عن الرسول صلى الله عليه وسلم بشرع زائد على ما في القرآن؛ لأن الله أمرهم بالنص القرآني القطعي دلالة وثبوتا أن يأخذوا ما أتى به الرسول ؛ لأنها مضت السيرة العملية بإيجاب شرعه الزائد على القرآن؛ وهو من عند الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ، ولأن الوحي وحيان: متلو وهو القرآن، وغـير متلو وهو السنة المطهرة؛ فلما صح لهم كل ذلك، وصح لهم أن الكذب والخطأ موجودان فيما نسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: لزمهم تحري الصحيح الثابت؛ وهم ضامنون إذا صدق الاجتهاد، وكان نزيها في تحري الحق: أن يحصلوا دين ربهم ؛ لأن السنة من الذكر، وما يتوقف عليه فهم الذكر؛ فهو من الذكر؛ والله ضامن حفظ الذكر، وأنه لن يضيع، وأنه لن يلتبس بغيره التباسا لا يحصل معه التمييز.. والقرآن الكريم جاءهم ببلاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنته؛ فلما سلطوا طرق التوثيـق التاريخي التي جعلها الله بأمره الشرعي، وقدره الكوني: سبيلا محددا للسلف في تمييز الخطإ من الصواب، والكذب من الصدق: أنعم الله عليهم بأن للمصيب أجرين على اجتهاده وإصابته، وأن للمخطئ أجرين على اجتهاده، وعفو عنه إذ أخطأ ولم يصب المراد.
قال أبو عبدالرحمن: ولا أعلم بعد حكومة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، وانتفاضة صلاح الدين الأيوبي: دولة قامت على العصبية للدين مثل دولة آل سعود.. ولا يغلط علي غالط فيحسب أنني ألغي دينية الدول الإسلامية التي تعاقبت على شرقنا العربي والإسلامي.. كلا؛ وإنما أقول: تلك الدول: إما ذات عصبيات قبلية، ودعاوى حقوق تاريخية للزعامة المجردة، وإما ذات عصبيات جنسية أممية هاضت على الشرق ثم اعتنقت الإسلام، وإما ذات عصبية إقليمية أو عرقية استقلت عن الخلافة الإسلامية حال ضعفها؛ وكل هذه الدول حكمت بالإسلام؛ لأن المجتمعات مسلمة، ولم تهزم النفوس بعد بجبروت علم مادي؛ فتتقبل بيسر الأيديولوجيات ودعايات كيد الكافرين وتضليلهم؛ ولم تقم دولة آل سعود على جموع تأتي من الشرق أو الغرب باسم العصبية لمجد أسرة ما بدافع حمية قبلية، ولا باسم برنامج يملى من الخارج، ويراد تنفيذه في جزيرة العرب؛ وإنما انطلقت من قرية صغيرة جدا هي الدرعية، وليس لها دعاية ألبتة غير الاجتماع على دين رب واحد يعبد، وشرع واحد ينفذ، ويترتب عليه بمقتضى المصالح المرسلة: تجميع القوى والقدرات لعمارة الأرض وقد مزقها التفرق الإقليمي والقبلي. قال أبو عبدالرحمن : كنت أقرأ الفصل العشرين من الباب الثاني من مقدمة (ابن خلدون) بعنوان «من علامات الملك التنافس فـي الخلال الحميدة وبالعكس»؛ فقد جعل الله الملك خلافة وكفالة للخلـق بشرع الله، فقال: «من حصلت له العصبية الكفيلة بالقدرة، وأونست منه خلال الخير المناسبة لتنفيذ أحكام الله في خلقه: فقد تهيأ للخلافة في العباد، وكفالة الخلق».. [تاريخ ابن خلدون 1/152]؛ وذكر أخلاق السياسة لكل دولة عصبيتها الدين؛ وهذه الأخلاق التي ذكرها ابن خلدون لم تفقدها الحكومة في البيت السعودي على مدى التاريخ، وهي كما حددها ابن خلدون: «الكرم، والعفو عن الزلات، والاحتمال من غير القادر، والقرى للضيوف، وحمل الكل، وكسب المعدم، والصبر على المكاره، والوفاء بالعهد، وبذل الأموال في صون الأعراض، وتعظيم الشريعة، وإجلال العلماء الحاملين لها، والوقوف عند ما يـحددونه لهم من فعل أو ترك، وحسن الظن بهم، واعتقاد [لعلها: واعتماد] أهل الدين، والتبرك بهم، ورغبة الدعاء منهم، والحياء من الأكابر والمشايخ، وتوقيرهم وإجلالهم، والانقياد إلى الحق مع الداعي إليه، وإنصاف المستضعفين من أنفسهم، والتبذل في أحوالهم، والتواضع للمسكين، واستماعشكوى المستغيثين، والتديـن بالشرائع والعبادات، والقيام عليها وعلى أسبابها، والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد»: [تاريخ ابن خلدون 1/152]. قال أبو عبدالرحمن : بعض رجال العلم الشرعي قد يكون لهم احترام وهالة لدى العامة وسواد الشعب في البلدان الأخرى من قبل الموافقين لهم في النحلة؛ وإنما العبرة بالأخلاق السياسية: أي أن يكونوا مقدرين من الدولة.. تقدير الدولة للعلماء في العصر الحاضر خصيصة في البيت السعودي لا عن حاجة طارئة أو مصانعة؛ ولكن عن إرث، ودينـونة، وإعمال لوصايا معهودة.. وقبل الحماس الشبابي للإسلام كان هذا البيت ورعيته: في المعترك وحده.. كان على دين شرعي، ويراد منه أن يكون على دين وضعي كغـيره، وكان أعداء الملة يستفزونه بحيل شتى؛ ففي عهد الملك فيصل بن عبدالـعزيز رحمهما الله تعالى تأججت قلوب ذوي الكفر على عمران مناسك الحج، فطنطنت الدعاية المغرضة باسم حقوق الحيوان والرفق بالحيوان، والغرض إلغاء شريعة الله في إيجاب الفدية في منى، وفي الندب إليها في بعض الأحوال.. و كان الدكتور (صالح صبحي بن إبراهيم)؛ وهو طبيب مصري من أهل القاهرة تعلم الألسن في القصر العيني، ثم في باريس، وتوفي في عام 1355هجريا/ 1936 ميلاديا، قد اقترح أن تحرق الأضاحي في منى نزولا عند رغبة الإنجليز الذين كانوا يأملون أن يجدوا من خلال ذلك موطئ قدم لهم هناك؛ فإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى مع بقية هذه المسألة, والله المستعان.