في صباح اليوم الأول من إبريل عام 2018م، وفي الطريق لحضور المؤتمر الدولي الخامس للإعاقة والتأهيل الذي يُعقد في العاصمة الرياض بهدف مقابلة خبراء ومتخصصين في جعل البيئة العمرانية ميسرة لذوي الإعاقة، ربما هي المرة الأولى التي اتواجد فيها في مثل هذا الحدث، ولم يكن في ذهني أن ثمة تحوّل «توعوي» ينتظرني على مستوى «المعرفة» بجانب آخر طالما كنت غائباً عنه، وظل لفترة طويلة خارج أجندة الحياة التي أعيشها.
قادتني الصدفة للتوقف في ذات الممر المؤدي إلى صالة التشريفات، حيث ينتظر مجموعة من ذوي الإعاقة وعائلاتهم وصول الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني لافتتاح المؤتمر نيابة عن خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله-. في أقل من دقيقة، بدا المشهد وكأنه «رسالة» تختزل معها جّل معاني «الإنسانية»، الكل يقف منتظراً، لا لشيء، فقط «لكلمة» اعتادوا عليها في كل مرة يقابلون فيها الأمير سلطان، تبعث فيهم «الأمل» و»الحياة»، هو يعرفهم بأسمائهم، وهم يعرفونه «باحتضانه» لهم لسنوات طوال مرت، كبروا معه، ونسجوا حكايات ومواقف عاشها معهم بكل تفاصيل «الألم» و»المعاناة»، وعاشوها معه بكل ما يحمله لهم من «بذل» و»عطاء»، إنهم جاؤوا ليستعيدوا «معنوياتهم» من مصدرها الذي عودهم على تحقيق أحلامهم، حتى وإن كانت مستحيلة.
حجر الزاوية في بناء ذاكرة ذلك المشهد «المعبّر»، كان الحوار الذي دار بين الأمير سلطان وطفل صغير معوق، حينما حمله وداعبه بكلمات لم تكن لتمر دونما «معانقة» لما بين السطور، ربما لم يستوعبها ذلك الصغير عطفاً على مستوى قدراته العقلية، ولكنها حتماً كانت بمثابة «الروح» لوالدته التي كانت تقف خلفه ترقبه وتنظر إليه بنهم و بعيون مُتعبة، ونظرات حائرة، وابتسامة وجدت «ملاذها» بين أروقة حروف خرجت من القلب إلى القلب.
غادر الأمير، وانفض الناس، وبقيت هي تداعب طفلها الصغير تسأله -مجازياً- عن ذلك الحوار الذي كان، رغم أنها سمعته بكل تفاصيله، لكنها مشاعر الفرح والأمل والحب الذي غرسها لقاء عابر بين إنسان وإنسان، ترك خلفه «شيء من حياة».
بخطى مثقلة، توجهت إلى القاعة الرئيسة، وأنا أرقب تلك الردهات التي تتواجد فيها أجساد أرهقتها الإعاقة، وعائلات نذرت نفسها للعناية بها، جاءت تحمل معها « أمل» وتبحث عن « أمل» آخر، أخذت مقعدي وأنا أسترجع ما مر بي من لحظات حبسها الزمن لوهلة، صورة تلك الأم وفلذة كبدها لم تغادر ذاكرتي، ولّدت بداخلي مشاعر غير مسبوقة، وسؤال كبير، أين كنت عن هذا العالم الذي يعيش رحلة نضال طويلة مع «الألم» و»الأمل»، بقيت صامتاً، أتجول بنظراتي بين الوجوه، وأقرأ تفاصيل المكان الذي يحيط بي، أُحدق بأولئك الذي أختارهم الله لخوض معركة «الإعاقة»، لحكمة يبتغيها. شعرت حينها بأني «خذلتهم» حتى ولو على سبيل «الاهتمام».
يقول الأمير سلطان بن سلمان: «كمتابع لقضية الإعاقة وكعامل في هذا المجال الرحب مع المعوقين وأسرهم منذ ما يقارب 35 عامًا، فإني لا أجد أفضل من أن نطلق على هذه الفئة المكافحة مسمى (ذوي القدرات الفائقة) فهم يثبتون لنا كل يوم ولأنفسهم أنهم قادرون ومثابرون ومنجزون». وهنا يجدر بي سؤال آخر، ما الذي يمكننا أن نقوم به تجاه مسئولياتنا كمتخصصين في العمارة وتخطيط المدن لتفعيل المبادرات التي أطلقتها هيئة السياحة في وقت سابق، وتبنت من خلالها أنماطاً سياحية جديدة على مستوى العالم ليصبح لدى مدننا السعودية نموذجاً مُحتذى لسياحة ميسرة لذوي القدرات الفائقة، يضمن لهم «وصولاً شاملاً» داخل البيئة العمرانية وتمكينهم من ممارسة حقهم المشروع في السياحة، والتعرف على تراثهم الوطني. لاسيما أنهم باتوا يشكلون أكثر من 12 % من إجمالي الحركة السياحية العالمية، أخيراً هل مدننا تمتلك «قدرات فائقة» هي الأخرى..؟!.
** **
- م. بدر بن ناصر الحمدان - متخصص في التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن