د.خالد بن صالح المنيف
بحسب الدراساتِ، فإنَّ أكبر مُسبِّب للحوادث المرورية بعد السرعة والانشغالِ هو عدمُ ترْك مسافةٍ كافيةٍ بيننا وبين السيارة التي أمامَنا! فالاقترابُ الشَّديدُ يُفقِدُ السائقَ القدرةَ على السَّيطرة، ولا يُعطيه فرصة للتصرف في أيِّ موقف طارئ!
وفي الأماكن العامة، يُنصَح دائمًا بترْك مسافةٍ بيننا وبين الآخرينَ؛ فربما أصابونا بعدوى أو بمرض أو نشلونا أو ضايقونا بروائحِهم!
ومثله الاقترابُ الشديدُ من المشكلة؛ فهو مُشِلٌّ للحركةِ، ومُضعِفٌ للتَّفكير!
وحتى في عالَم الطبيعة، فإنَّ الاقترابَ الشَّديد يؤذي، ويحُول بيننا وبين تلمُّس الجَمال! فرؤيتكَ للبحر عن بُعد أجملُ بكثير من غوصِكَ فيه، ولو سافرْتَ للقمر الذي تغنَّى به الشعراءُ وهامَ به الكُتَّابُ فلن ترى إلَّا حجارةً ومساحاتٍ خالية!
ولو اقتربَتِ الشَّمسُ قليلًا لاحترقْنا، والمصباحُ يحرِقُ الفراشةَ إنْ لامسَت سطحَه، والبحرُ لو استمرَّ في حالة مَدٍّ دائمة لغرقْنا!
الاقترابُ الشَّديد من البشر -كما أكَّدَ علماءُ الاتصال- يولِّد توتُّراتٍ ومَللًا!
لا تحتكّ بشكل دائم مع البشر؛ فهو أدْعى لحِفْظ الودِّ، وزرْع المهابة!
لا تضرِبْ حصارًا عاطفيًّا على مَن تُحبُّ؛ حتى لا تخسرَه بكثرة الاتصالاتِ والرسائل! لا تلغِ المسافةَ باسْمِ الحُبِّ!
ارسِم حدودَك بوضوح وبصراحة للآخرينَ, بيِّن لهم ما يُعجبُكَ ومالا يُعجِبُكَ، حدِّد مواعيدَ الاتصال، وحدِّد الأمورَ التي لا تفضِّل الحديثَ عنها, ارسِم حدودًا بتبيين محبوباتِكَ ومَكرُوهاتِكَ!
تأمَّل في طبيعة عمل زووم الكاميرا؛ فالاقترابُ الشَّديد لا يُظهِر جمالَ الصُّورة، بل ربما لا يبيِّن ملامحها وفوق هذا يوضِّح نقاطَ الضَّعف ومواطنَ القُبح، كما أنَّ الابتعادَ الشَّديد أيضًا يضيِّع الملامح تمامًا، ويلغي مواطنَ الجمال فيها!
دخولُكَ مع البشر دون ترْك مسافاتٍ يشتِّتك ويُربِكُ حياتَكَ ويولِّد التوترَ بينكُم!
وفي المقابل، احترِمْ حدودَ الآخرينَ ومسافاتِهم؛ لا تقترِب ما لم يسمَحوا، ولا تجعل من نفسِكَ استثناءً دون غيرِك من البشر عن طريق الترجّي أو الاستعطافِ!
تقول أحلام مستغانمي: «الحبُّ هو ذكاءُ المسافة. ألّا تقتربَ كثيرًا فتُلغي اللهفةَ، ولا تبتعِدَ طويلًا فتُنسى. ألّا تضعَ حطبَكَ دفعةً واحدةً في موقِد مَن تُحبُّ؛ أنْ تُبقيه مشتعلًا بتحريكِكَ الحطبَ، ليس أكثر، دون أنْ يلمَحَ الآخرُ يدَكَ المحرّكة لمشاعِره ومسار قدره. لا حبَّ يتغذَّى مِن الحرمان وحدَه، بل بتناوُب الوصْل والبِعاد، كما في التنفُّس. إنها حركةُ شهيقٍ وزفير، يحتاج إليهما الحبُّ لتفرغ وتمتلئ مجددًا رئتاه،كلَوْحٍ رُخاميٍّ يحملُه عمودان إنْ قربْتَهُما كثيرًا اختلَّ التوازن، وإنْ باعدْتَهما كثيرًا هوى اللوحُ. إنه فنُّ المسافة!».
وأذكى البشرِ هو مَن يُتقِن فنَّ إدارة المسافات يعرف مَن يَقتربُ، ويعرف مَن يبتعدُ، وقد أكَّد هذا المفهومَ عالِم الاتصال الإنسانيِّ (إدوارد هول) بقوله: «إنَّ إدراك المسافة والمحافظة عليها مسألة مُهمة لإبقاء الودِّ والاحترام المتبادل في العلاقاتِ ما بين الأشخاص. ونفقِد علاقتَنا بالآخرينَ عندما نخطئ في احتساب تلك المسافة».
لا تقعْ في خطأ اقتحام المسافاتِ وتجاوُز الحدود؛ حتى تنعمَ بحياة سعيدة ملؤها حبٌّ وطيب تواصُل واحترام وتقدير ممَّن حولكَ، ولْتعمَل على وضْع المسافاتِ والحواجز والأسوار؛ فقليلٌ من المسافاتِ والحواجز ستجعلُكَ تشعُر بقيمتِكَ وكيانِكَ، وستسعَدُ معها بالحياة، وستحسُّ بإنسانيتِكَ وكيانِكَ.
إنَّ مِن أكثر أسباب فشل العلاقاتِ، إلغاء المسافاتِ؛ اعتقادًا مِنّا أنَّ هذا أفضلُ لتطوير العلاقة وتحسينها، إلَّا أنَّ العكسَ هو الصحيحُ، فالمساحة الشخصية التي تحيط بالفرد يعتبِرُها مِلكًا له، وغالبًا ما يصيبُ البعضَ حالةٌ من الذُّعر حالما يتخطى آخرونَ تلك المساحةَ.
البشرُ رائعون جميلون ما لم نقتربْ منهم! والإشكاليةُ ليسَت فيهم، بل بكوننا اقتربْنا أكثرَ، وكوننا لم نفهَم أنَّ البشر طُبِعوا على النقص وعدم الكمال، ونحن مَن يتحمَّل وزر المشاعر السلبية التي تكونَت بعد الاقتراب الشديد منهم، وسمحْنا لأنفسِنا بالوصول لما لا يجبُ الوصول إليه، وكشْف ما كان يجبُ أنْ يُستَر, إنَّ التفتيش في الصناديق المغلقة ربما يوصلنا لاكتشاف مالا يسرُّنا رؤيتُه، وفتْحَ الستائر ربما جعلَك تُبصِر لوحاتٍ ما كنتَ مُضطرًّا إلى كشْف قبحِها! لا تغُص كثيرًا في محيطاتِ مَن حولَكَ؛ فأغلبُ الظَّنِّ أنكَ لن تُخرِجَ جواهرَ ودُرَرًا، بل عيوبًا ونواقصَ!
وقد انتبه الشاعرُ النبطي (عبدالله علوش) لخطورة الالتصاق فقال محذِّرًا!
اترك مسافة كافية بينك وبين الآخرين
بعض البشر وِدَّك حدود المعرفة معهم سلام!
وإدارة المسافاتِ حكمة ونعمة عظيمة لمن تمكَّن منها، والجهلُ بها غفلةٌ، ومَن حُرِمَها فقد خسِرَ ا لكثيرَ! لا تبتعِدْ عن الدُّنيا بالترهُّب؛ فلا رهبانيةَ في الإسلام، ولا تقتربْ منها بالشَّهواتِ فإنها منافيخُ النَّار.
لا تقتربْ كثيرًا فتملَّكَ الناسُ، ولا تبتعِد كثيرًا فينْسَوْكَ أو يجهلوكَ. لا تقتربْ من ذاتِكَ أكثر فتُصابُ بالغرور، ولا تبتعِد عنها كثيرًا فتشعُرَ بالضآلة والدونية.
لكي يبقى الجميلُ جميلًا لا تقترِبْ منه كثيرًا! البعضُ أجملُ من بعيد، فحافِظْ على المسافة بينَكَ وبينهم.