ياسر صالح البهيجان
الاتجاه نحو إنشاء دور مخصصة للسينما تحوّل يطول مفاهيم العقل الجمعي في أي مجتمع، ويتجاوز قدرة التلفاز على التغيير الفكري الممنهج لارتكازه على ميزة حشد فئات من المجتمع في وقت واحد لتلقّي قيم ومبادئ محددة، بينما يتيح التلفزيون إمكانات أكثر تعدديّة وفي مدد زمنيّة مختلفة ما قد يجعل بؤرة التأثير متفاوتة ونوعية التجربة مختلفة من شخص لآخر.
دور السينما تماثل قاعات الدراسة انطلاقًا من مرتكزين رئيسيين، المنهج المعروض، والاحتشاد في مكان واحد، لذا نجد أن ارتقاء مستوى التعليم في بلد من البلدان له انعكاسه على مستوى الوعي المجتمعي؛ لأن التجربة الجماعيّة تكاد تكون واحدة لدى مختلف المنتظمين في السلك التعليمي، وهذين المرتكزين يعملان أيضًا بذات الكفاءة والمحصلة النهائية لدى دور السينما، إذ إن مختلف شرائح المجتمع ستتجه إلى مشاهد العرض السينمائي الجديد في أوقات متقاربة، وستخضع لسلطة المفاهيم القابعة داخل تفاصيل المشهد الفيلمي، وستخرج من قاعة السينما محمّلة برؤى ذات هويّة واحدة.
السؤال الأكثر طرحًا منذ إقرار السماح بعودة دور السينما في المملكة، ما القيمة المنتظرة من افتتاح الدور في زمن الإنترنت وما يتيحه من إمكانية المشاهدة عن بعد ودون تكبّد أي مشقة؟
سؤال غاية في الوجاهة يدفعنا للنظر إلى ميزات دور السينما التنافسيّة في هذا الصعيد، ويمكننا القول بأن الدور تتميّز بثلاث خصائص تُعد هي جوهر وجودها ومصدر قوتها وفاعليتها الاجتماعيّة.
أولاً خاصيّة (التشارك المجتمعي في التجربة)، إذ إن قيمة وجود الفرد داخل المجتمع تتمثّل في مشاركة الآخرين في التجارب الحياتيّة، وهي حاجة سيكولوجيّة لشعور الإنسان بالانتماء والتفاعل. دور السينما توفّر مساحة للتأثر اللحظي لدى مجموعة من الأفراد، عندما تشاهد موقفًا حزينًا تُدرك بأن الموقف بعث الحزن ذاته لدى الجالسين بجوارك رغم عدم معرفتك بهويتهم، وإن ضحكت وأنت ترى مشهدًا كوميديًا ستستمع لضحكات الآخرين الذين يقاسمونك التجربة نفسها، ومن هنا يتحقق مبدأ الشعور المشترك المعزِّز لقيمة كونك فردًا لست وحيدًا، بل جزءًا من منظومة اجتماعية تشاركك اللحظة أيًا كانت.
ثاني الخصائص هي (التقنيات المتطورة في وسائل العرض)، حيث توفّر دور السينما شاشات بأحجام ضخمة وصوتيّات عالية الدقة، ومشاهد بجودة فائقة، ومن صعّب على الفرد توفير جميع تلك المزايا، نظرًا لكلفتها المالية الباهظة واحتياجها للمساحات الكبيرة غير المتوفّرة في معظم المنازل.
والخاصيّة الثالثة تتمثّل في (الأسبقيّة بعرض الأفلام حديثة الإنتاج)، معظم الأفلام لا تُطرح على شاشات التلفاز والإنترنت إلا بعد أشهر من عرضها في دور السينما وحتى تستوفي إيراداتها من شبّاك التذاكر، وهذه الفاصلة الزمنيّة ما بين العرض في دار السينما ومن ثمّ الوسائل المرئية الأخرى تعطي الدور قيمة إضافيّة لوجودها، وتحديدًا لدى الفئة المواكبة لمستجدات الإنتاج السينمائي.
تلك الخصائص الثلاث عندما تتعاضد تجعل من وجود دور السينما إضافة نوعيّة لتجربة المجتمع، وذات اهتمام بأبعاد اجتماعية ونفسية واقتصادية وتكنولوجيّة من شأنها تغيير العقل الجمعي وبناء الوعي الكلّي للمجتمعات البشرية.