د. منى بنت عواد الخطابي
للمرة الثانية خلال السنتين الماضيتين، تظهر أزمة فواتير المياه الصادمة على السطح مع الارتفاع الجنوني في مبالغها التي طالما دفعناها دون أن نشعر بوجودها لسنوات طويلة.
اليوم لن أتطرق لموضوع زيادة التعرفة، أو الشرائح، وطريقة حسابها، ولا المبالغ الخيالية التي سمعنا عنها في بعض الفواتير، وردود فعل شركة المياه، ووزارة البيئة، والمياه والزراعة حيال ذلك، وتصريحات مسؤوليها عن معدل استهلاك الفرد، بل سأكتب عن جانب آخر تماماً، فبالرغم من أن الموضوع أثير أكثر من مرة خلال الفترة الماضية، إلا أنني لم ألمس جهودا ترشيدية، وتوعوية بالشكل المطلوب.. بل إنني لم أسمع أي تصريح بخصوص حملات الترشيد بعد تصريح معالي وزير المياه والكهرباء السابق خلال لقاء تلفزيوني قديم عرض على إحدى القنوات الفضائية (قبل أن تلغى وزارة المياه والكهرباء، ويتم تعديل اسم وزارة الزراعة، وتنقل إليها المهام والمسؤوليات المتعلقة بنشاطي البيئة والمياه)، خلال اللقاء صرح الوزير السابق بأن جهود الوزارة في حملات ترشيد المياه استمرت لعشر سنوات دون فائدة، أو نتيجة مرضية! والمقصود من هذا التصريح، وكما فهم أغلبنا؛ بأن المواطن «ليس منه فائدة» كما يقال دائماً وباستمرار. لكن ألم يخطر على بال معاليه والقائمين على حملات الترشيد، بأن المشكلة قد تكون في الحملة نفسها، وقد يكمن الخلل في الآلية المتبعة. وكما قال أينشتاين: «من الجنون أن تفعل الأشياء دائماً بنفس الطريقة ثم تتوقع نتيجة مختلفة». فهل يعقل استمرار حملة تمس قضية جوهرية في بلادنا لمدة عشر سنوات بنفس الآليات والوسائل بلا نتيجة! وهل يعقل هدر موارد الوزارة لمدة عشر سنوات في حملات ترشيد بلا نتيجة! وهل يكفي أن تكون حملة ترشيد أهم مصدر للحياة في ظل الشح الشديد له مجرد لوحات في الشوارع، أو إعلانات تلفزيونية مستهلكة، أو محاضرات مملة تقحم خلال اليوم المدرسي، أو أن يخصص لها يوم في السنة؛ كيوم الشجرة والمرور؟ أو حتى عن طريق توزيع الملايين من أدوات الترشيد كما ذكر معاليه، ومن خلال تجربة تحتاج إلى تغيير معظم الأدوات الصحية في منازلنا للاستفادة منها؟ وهل يصدق عاقل بأن الوزارة، وضمن حملتها التي استمرت لمدة عشر سنوات لم تحرك ساكناً؛ لاكتشاف التسريبات سواء في البيوت، أو في الشوارع؟.. وهل من المنطقي أن تكون وزارة المياه هي الجهة الوحيدة المسؤولة عن هذا الملف المهم؟ كلنا نعرف أن اليد الوحيدة لا تستطيع التصفيق، ومئات الساعات التلفزيونية التي بثت ضمن حملة ترشيد المياه صاحبتها مئات الإعلانات التلفزيونية لأهم الشركات التي تسوق لمنتجات غسيل الأيدي، والتي يظهر الأطال فيها يتنافسون حول قدرة منتجهم المفضل في قتل الجراثيم خلال دقيقة أو نصف دقيقة، كل ذلك وجميع صنابير المياه حولهم مفتوحة طوال الإعلان! وكل الإعلانات المنتشرة في الشوارع يقابلها دورات مياه عامة في المدارس، والمساجد، والأسواق، والمطارات يملأ الماء أرضياتها؛ بسبب التسريب في مرافقها.
قد يتساءل البعض كيف يمكن لحملات التوعية أن تجني الثمار المطلوبة؟ وللإجابة عن هذا السؤال، يمكن النظر إلى تجربة الحكومة البريطانية التي أطلقت في عام 2006 حملة توعية ممنهجة؛ لزيادة الوعي حول نمط الحياة الصحي للأطفال بشكل خاص، هذه الحملة بدأت من المدارس، فأصبح الطفل يحسب ضمن النشاطات اليومية ومن خلال الدروس المقررة عدد السعرات الحرارية التي يستهلكها، ويقارنها باحتياجه اليومي حسب كتلة جسمه، ويحسب نسب الدهون والأملاح في المنتجات الغذائية المختلفة، ويصنفها، ويرسم خرائط للطريق التي يمشيها ليصل إلى مدرسته، ضمن قوافل المشي التي تنظمها مراكز الحي للأطفال يوميا. كما أصبح يرى، ويسمع كل ما يشجعه على الأكل بشكل صحي، وزيادة نشاطه البدني ضمن وسائل الإعلام المختلفة، ومن خلال الرسوم المتحركة التي تعود على مشاهدتها في وسائل المواصلات والمراكز الصحية ومراكز الأحياء التي تنظم حصصاً رياضية مختلفة مجانية بشكل يومي. كما شاركت الشرطة في توزيع المعلومات الخاصة بأهم الأماكن التي يمكن أن يزورها المراهقون؛ للعب كرة القدم مثلاً. حتى إن المتاجر الكبرى ساهمت في هذه الحملة؛ بتوفير خيارات صحية أكثر، ووضع المعلومات الغذائية على أغلب المنتجات بشكل واضح. وبعد مرور عشر سنوات من العمل الجاد قررت الحكومة البريطانية أخيراً زيادة الضريبة على السكر، وجميع المنتجات الغنية به. طبعاً لم يفاجأ أحد بأن المتضرر الأول من القرار هو التاجر، والداعم الأول له هو المواطن الواعي.
وفي عام 2015 أعلنت بريطانيا بداية مبادرة جديدة؛ تهدف إلى بناء جيل جديد من المبرمجين، وإعادة بريطانيا إلى خارطة الريادة التقنية، والمتابع لهذه المبادرة سيجدها كسابقاتها، تأتي بتكاتف وتعاون جميع الجهات المعنية حكومية أو خاصة؛ لأنه هدف وطني يمس مستقبل البلاد.
وكما ذكر سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- خلال مقابلته المميزة في برنامج «60 Minutes» التحدي الأساسي هو؛ جعل المواطنين يؤمنون بجدوى القرارات الإصلاحية التي تم اتخاذها، ولهذا أعتقد أن بلادنا تستحق منا أن نجتهد في مثل هذه الحملات التوعوية الجادة، والمنظمة في سبيل تحقيق التنمية في بلادنا، وتحقيق الرؤية الطموحة لبلادنا عام 2030، بدلاً من إلقاء اللوم على المواطن الذي متى ما استشعر، وآمن بأهمية القضايا التي تمس مستقبل بلادنا، سيكون أول داعم لجميع القرارات التي تصب في الوصول للأهداف المنشودة.