د. محمد عبدالله الخازم
وفي صقيع الديار البعيدة، يكون حديث الغربة والضنى والشجن مع خلفية صوت الأرض اليمانية (أيوب طارش) يغني «ألحان الحقول» ويذكّرنا بـ «حاملات الشريم» ويبكينا بـ «حنين المفارق». أتسامر مع الأحبة مهاجري اليمن السعيد حول ذكريات القرى وأصالة الأراضي وأشواق المكابد الذي أرهقه الترحال بحثاً عن لقمة عيش وسلامة بدن وفرصة عمر له ولأطفاله.
ليس وارداً أن نحلّل الرؤى السياسية في غربتنا، فنحن نبحث عن التقاء لا اختلاف ونهرب من واقع الحال وصراعات من أعميت بصائرهم عن النظر إلى ما هو أبعد من الطموحات والمكايد الضيّقة والآنية. أنا ابن القرية وصديقي اليمني، نتذكّر الندى مع طلعة الفجر وأمهاتنا حاملات الشريم يحصدن قبل أن تجفّف شمس الضحى ندوة الطل من فوق الحشائش. يغنين حنين المفارق للحبيب الذي غادر وتأخر في العودة، وكما يغادر اليمني أرضه فقد كان آباؤنا يغادرون القرى بحثاً عن لقمة العيش في البندر تاركين للأمهات رعاية الحقل والأطفال. كم سحابة تسير مع حنين المفارق فلا تصل إلا في خيالاتنا التي أشعلها صوت الشادي وكوراله مردداً أجمل الألحان.
أخاطب صديقي الأصيل؛ تبكون لصوت الأرض اليمانية لكنكم لا تلبون نشيد العودة للأرض السعيدة، فيأتي صوته المنكسر؛ أين هي السعادة؟ لو كانت السعادة شجن لابتزيناكم بها.. لقد اختطفوا أرض اليمن واختطفوا سعادتها ولم تعد تنبت الحشائش في أرضها. وحين تنبت يجتزونها بمعاول الهدم؛ الفقر والجهل التي تورث الطائفية والتحزّب والتناحر.
يا ما صبرت وقاسيت يا يمن.. ليتهم يرون حالك.. ليتهم يرون ألف يا ليت... ليتهم يعودون، من رحلوا إلى بعيد ليعمروك من جديد بالروح والفكر والعطاء. سامحهم يا يمن فقد أحبوك ويودون أن يلموك في العصف الشديد ويخبئون حبك في تعاريج الوريد. ليس ذنبهم أنك أبيت إلى أن تعود في كل مرة إلى ضياعك من جديد. فلربما عاد الهوى وأعادهم الله من جديد، يزرعونك من جديد.
لا تيأس يا يمن.. لا تيأسوا محبي اليمن وأبنائه، تعودتم الهجرة في أصقاع الأرض وحافظتم على لغتكم ولهجاتكم وعاداتكم لأنكم تؤمنون بالعودة يوماً ما ليمنكم السعيد. تنشدون فيه أغاني الفرح بدلاً من أغاني الشجن التي تحيي أماسي غربتكم.
ويتواصل سهر الغربة:
يا آخر الأشواق في سهري وفي قلبي العميد
يا من رحلت إلى بعيد.. قصر مسافات البعيد
لا تذكر النسيان أو ما فيه من صمت وتيه
فلربما عاد الهوى وأعادك الله المعيد
كم كنت لميتك لموم الريش في العصف الشديد
يا آخر الأوراق في زهري تساقط في الجليد
يا آخر الإشراق في عمري وآخر وجه عيد
ويبقى اليمن في مزهريات الروح لأبنائه يزرعون الوفاء أين كان موقعهم داخله أو في الغربة. نعم. الصفا والطهر والفجر وضوء الابتسامة ربما توارى، لكن الأمل لم يختف. مهما حاصروا روض زهره سيعود الندى والظلال. سيبقى اليمن الأرض والإنسان، أما أولئك الذين يتخاطفونه هنا وهناك، فللتاريخ الكلمة الفصل في الحكم عليهم. ستعود يا يمن للسلام والسعادة، وسنسهر مع أصدقائنا في حضنك بدلاً السهر في شجن غربتك.