د. جاسر الحربش
مع فارق القوة بكل وضوح لصالح المشروع الصهيوني فإن الفرس والصهاينة لكل منهما مشروعه التوسعي الخاص طويل الأمد على الأراضي العربية. الوجه الفارسي للعملة قومي، عمره ثلاثة آلاف عام، والوجه الصهيوني للعملة نفسها تلمودي، عمره أيضًا ثلاثة آلاف عام. المشروع الفارسي يقول أنا صاحب الحضارة الأقدم والأعرق في كامل المنطقة التي يسميها الاستعمار الشرق الأوسط. والمشروع التلمودي يقول أنا صاحب الحق الإلهي في كامل المنطقة نفسها بما في ذلك مملكة سبأ ويثرب وخيبر وتيماء وجبل اللوز مضافة إلى كل ما يمتد بين النيل والفرات.
من العبث المتكرر محاولات تفنيد مزاعم الطرفين بالاستناد إلى ما يراه العرب من حقوق؛ لأن الادعاءات في المشروعَين أوضح ما تكون في كتابات الحقوقيين اليهود المناوئين للمشروع الصهيوني بوصفه عنصريًّا كاذبًًا كما في كتابات الإيرانيين من أصول غير فارسية الذين يتعرضون في بلدهم إيران لنفس طمس الهوية والاحتقار من قِبل المشروع الفارسي.
لكن ماذا عن فارق القوة بين المشروعين، مقارنة بما لدى العرب من مخزون إمكانيات القوة والانتصار، وهي هائلة، وتحتاج فقط إلى إرادة وطنية ودينية مخلصة وجامعة؟ المشروع الفارسي ضعيف في عقر داره إيران؛ إذ توجد نسبة تتعدى الخمسين في المائة عرقيًّا وجغرافيًّا ترفض الهيمنة الفارسية لأسباب لغوية ومذهبية وعرقية. هذه الخمسون في المائة يمكن كسبها إلى الصف العربي عند نشوب أول معركة مصيرية عادلة وغير متعصبة. الدولة الإيرانية في وضعها الحالي مضطربة سياسيًّا، وفاشلة اقتصاديًّا، وانتشارها العسكري مجرد التصاق طفيلي مؤقت مع أمريكا في العراق، ومع روسيا في سوريا، ومع تركيا حسب التقلبات الظرفية. الحكومة الإيرانية الحالية تسير نحو زوال مؤكد، وليس لها حليف تتحكم به إعلاميًّا وماليًّا وسياسيًّا لدرجة التغلغل والانتشار في مفاصله وعروقه مثلما هو متوافر في المشروع الصهيوني.
على النقيض من المشروع الفارسي نجد المشروع الصهيوني؛ فهو يمثل ترسانة، وربما أقوى ترسانة تجمع بين العسكرة والإعلام والمال والاستخبارات على مستوى العالم. ويدير هذا المشروع دهاة يتحكمون في أسماع وأبصار وجيوب الحضارة الغربية بكاملها. تكامل المشروع الصهيوني التوراتي مع المشروع الصهيوني المسيحي الإنجيلي، والتقاؤهما على الأهداف نفسها تجاه المنطقة العربية والقدس، واعتبار الإسلام ديانة يرونها ملفقة وكاذبة، يجعل الخطر الأكبر على الإسلام والعرب يأتي من المشروع التلمودي، ولا ينفع معه الاعتراف ولا التطبيع وإنما التأجيل. التأجيل إلى متى؟ إلى أن تتغير موازين القوة في العالم، وتتكشف للمواطن الأمريكي نتائج ارتهان قوة ومصداقية بلده لخدمة مصالح صهيونية مقدمة على مصالح الشعب الأمريكي نفسه، ولعلها بدأت تتكشف الآن بالفعل.
هل لهذا التغيير دلائل وبشائر؟ أقول: نعم؛ فبقدر ما كان للعولمة المعلوماتية مساوئ فإن لها حسنات، من ضمنها انتشار الأصوات والتقارير الحقوقية الإنسانية بين دعاة السلام في العالم، على شكل وثائقيات ومحاضرات وندوات ودراسات أكاديمية معمقة.
عندما تواجه الإدارة الأمريكية مستقبلاً ميلان السهم الاقتصادي إلى الأسفل لصالح الصين والهند والأمم الصاعدة الأخرى سوف تضطر لتصحيح قواعدها السياسية والاقتصادية والجيوسياسية.
أما المشروع الفارسي فهو في الأساس هش وقومي، يستند إلى تقمص وتشويه مذهبي متعمد لديانة سماوية، وصلتهم بلغة القرآن العربية، وكانت لهذا المشروع محاولات متكررة طيلة القرون الماضية، وانتهت دائمًا إلى الفشل. بقي القول إن وجه العملة الفارسي إن كان مصنوعًا من خامة الحديد المتفتت فإن الوجه التلمودي للعملة مصنوع من الحديد الصلب، صعب على الكسر، لكنه قابل للصهر والتذويب مع رفع درجات الحرارة من حوله. إن الأغلبية الإسلامية والعربية الصامتة تعرف هذه الحقائق، ولكنها أُشغلت بنفسها، وتبقى في حالة كمون.