عروبة المنيف
نُشرت مؤخراً دراسة قام بها فريق علمي من جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك والتي أكّدت أن البشر في العقد الثامن من العمر يواصلون تطوير خلايا جديدة في منطقة من الدماغ هي المسؤولة عن صنع ذكريات جديدة واستكشاف بيئات جديدة. تلك الخلايا تعمل من أجل الحفاظ على القدرات للتعلّم والتكيّف مع البيئة، وأنها مهمة للاستجابة الوجدانية والقدرة على مواصلة السلوك الذي تحكمه العواطف، بالإضافة إلى دورها في الدمج بين الذكريات المعقدة والمعلومات، وتوصل الفريق العلمي إلى أن دماغ المشاركين الأكبر سناً استمر في إنتاج خلايا دماغية جديدة قادرة على التذكّر والتعلّم وغيرها من وظائف حيوية.
إن نتائج تلك الدراسة الحديثة هي إضافة للمسلّمات التي تدرس في العلوم التربوية والسلوكية وعلوم الإنسان وتطوير الذات، والتي تؤكّد بمجملها على أن الإنسان يستطيع أن يتغيّر ويتطور مع توافر البيئة المناسبة لذلك في أي عمر وبأي زمان، فقد تتغيّر مبادئ الإنسان وقيمه وأهدافه وأفكاره وبالتالي سلوكياته مع مرور الزمن، كل ذلك يعتمد على التجارب التي يعايشها وقدرته على التكيّف والتأقلم مع التغيّرات التي قد تطرأ. لقد آثرت الكتابة عن ذلك الموضوع بعد مشاهدتي لإحدى حلقات الإعلامي الشهير أحمد الشقيري والتي تم تداولها على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تتضمن قصته «التربوية» مع والده عندما يريد تأديبه وتعليمه. يقول الشقيري، بأنه عندما كان يخطئ يأخذه والده إلى الخارج ويشير إلى شجرة جذعها معوج وشجرة بجانبها جذعها مستقيم ويدعه يتأمل الشجرتين قائلاً له بأن الشجرة إذا نشأت على اعوجاج من الصعب جداً جداً! تعديلها بعكس الشجرة المستقيمة، كذلك الإنسان هو كالشجرة ، فإذا كان صغيراً من السهل تعديله ولكن إذا كبر صعب تغييره وتعديله، فانعدل الآن لأنك إن كبرت صعب جداً تعديلك!
مع احترامي للشقيري وبرنامجه المميز والرائد الهادف لرفع مستوى الوعي الإنساني، إلا أنه في تلك الحلقة لم يوفق في ضرب ذلك المثل وتشبيه الإنسان «بالشجرة المعوجة أو المستقيمة» الذي لا تدعمه نظريات العلوم الإنسانية والسلوكية وبالتالي الواقع الإنساني المعيش، فالإنسان متغيّر، يتعلّم ويتطور ما دام فيه عرق ينبض وإمكانية «استقامته»، أو «اعوجاجه» خلال التفاعل مع البيئة والتكيّف معها واردة علمياً وواقعياً، على عكس الشجرة التي نشأت معوجة أو مستقيمة وستبقى بقية حياتها كذلك. فهناك أشخاص كانوا قد حادوا عن الطريق المستقيم وعندما سنحت الظروف البيئية والاجتماعية استقاموا، وفي المقابل، هنالك أشخاص كانوا مستقيمين وعندما مروا بظروف معينة ووجدوا بيئة مناسبة للاعوجاج مالوا عن استقامتهم وتوغل بهم الفساد فحادوا عن الصواب، فالإنسان ملهم سواء بالاستقامة أو الاعوجاج حسب الظروف البيئية وتفاعله مع بيئته وتصالحه مع ذاته في أي عمر وبأي زمان ومكان والنفس البشرية مهيأة وملهمة للطريقين {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}.
أشير في النهاية إلى أن القنوات التي لديها باع طويل في الخبرات التلفزيونية ولديها جمهور واسع، ينبغي أن تكون أكثر مهنية في اختيار المواضيع وبالتالي إجازتها، بحيث تعرض تلك المواضيع على مستشارين مختصين بتلك المواضيع نظراً لقوة تأثير تلك القنوات أو الشخصيات المقدِّمة للمواضيع على شريحة جماهيرية كبيرة حتى لا تفقد مصداقيتها مستقبلاً.