د. محمد بن يحيى الفال
في الأمثال التي هي وكما هو معروف تجارب الثقافات والشعوب التي يتم تلخيصها في عبارات مختصرة ولكن معبرة ولها دلالاتها، وتطرقت الأمثال إلى كل الأمور المتعلقة بحياة الإنسان، ومنها بطبيعة الحال ما يخص صحته التي تعتبر من أهم المحاور والشئون التي سعي الإنسان دومًا وبلا توقف على تحسين نوعيتها، مما جعلها من أهم العلوم التي بحث الإنسان في بحورها وكانت الشغل الشاغل لاهتمامه منذ ساحق الأزمنة وحتى وقتنا الحاضر وستضل كذلك مستقبلاً، ومن الأمثلة الشهيرة ذات الصلة بصحة الإنسان التي نجدها في الكثير من ثقافات الشعوب باختلاف مناطق عيشها وأعراقها هو المثل الذي يقول «درهم وقاية خير من قنطار علاج»، المثل الذي نرى مقابل له في العديد من الثقافات ومنها الثقافة الإنجلوسكسونسيه، حيث يردد الإنجليز في أمثالهم «An Ounce of Prevention is Worth a Pound of Cure.
ولقد استشعرت الكثير من دول العالم المتقدم والنامي أهمية أن يكون لديها مراكز متخصصة لمراقبة ومكافحة الأمراض، وكانت القارة الأوروبية هي السباقة في هذه الاهتمام بهذا المجال كونها تعرضت عبر تاريخها لانتشار الكثير من الأوبئة والأمراض التي فتكت بملايين من البشر، والتي كان أخطرها وأبشعها مرض الطاعون الأسود في القرن الثالث عشر الميلادي الذي فتك بحوالي ثمانية ملايين نسمة في فرنسا وحدها، وحوالي مليونين من البشر في بريطانيا، وملايين أخري في باقي القارة الأوروبية. ولا عجب أن تكون القارة الأوروبية هي السباقة في تأسيس مراكز لبحوث ومراقبة الأمراض وذلك انطلاقا من تجاربها مع تفشي الأمراض وأهمية بأن تكون هناك جهة متخصصة يؤكل إليها مراقبتها والوقاية منها. وعليه فقد تم تأسيس أول مركز متخصص لمراقبة الأمراض في فرنسا وهو معهد باستور الذي تأسس عام 1887، وتمت تسميته تخليداً لذكرى لويس باستور عالم الكيمياء الحيوية الفرنسي والذي أشتهر ببحوثه عن أسباب الأمراض المعدية وسُبل الوقاية منها. وعودًا إلي الأمثال وفيما يتعلق بصلب الموضوع نرى كذلك المثل القائل «الحاجة أم الاختراع»، واضحاً وجلياً في أسبقية أوربا في إنشاء مراكز لمراقبة الأمراض والوقاية منها، لكونها تعرضت لمآسي بسبب الأمراض السارية وهو الأمر الذي لم تتعرض له الولايات المتحدة الأمريكية، أو على أقل تقدير ليس بنفس الفظاعة التي شاهدتها أوروبا عبر تاريخها، حيث نرى أن الولايات المتحدة أنشئت أول مركز لمراقبة الأمراض والوقاية فيها في الأربعينيات من القرن المنصرم، وهو المركز الذي اتخذ من مدينة أتلانتا بولاية جورجيا مقراً له، تحت مُسمى «مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها»، وتم إلحاقه بوزارة الصحة الفيدرالية، ويعمل فيه حالياً أكثر من خمسة عشر ألفاً من الكوادر الطبية والباحثين وفي التخصصات الطبية كافة وبميزانية تبلغ مليارات من الدولارات، وليصبح حالياً من أهم مراكز مراقبة الأمراض على المستوي الدولي.
وفي بلادنا -حفظها الله- تتولى وزارة الصحة مسئولية مراقبة الأمراض السارية في المملكة، وذلك عبر ثلاث أذرعه تتبع الهيكل التنظيمي للوزارة وهي وكالة الوزارة للصحة الوقائية، الإدارة العامة لنواقل المرض والأمراض المشتركة وبرنامج الرصد الصحي الوبائي والمعروف اختصارًا بـ(حصن).
ومما لا شك فيه فإن وزارة الصحة بالمملكة ورغم المسئوليات المتعددة والمنوط بها القيام بها، استطاعت وإلى حد بعيد، وبتوفيق من الله، وبميزانيات ضخمة توفرها لها الدولة سنوياً إلى التعامل الفاعل مع الأمراض الوبائية التي تم اكتشافها في المملكة في الفترات القريبة السابقة، خصوصاً فيما يتعلق بمرض الالتهاب الحاد للجهاز التنفسي بنوعيه إنفلونزا الطيور (H5N8) وإنفلونزا الخنازير (H1N1) الذي تم القضاء عليه بالكامل في العام 2009.
ولقد شاهدنا في الآونة الأخير انتشار مرض الجرب (Scabies) في العديد من المدارس، خصوصاً بمنطقة مكة المكرمة، والملفت للنظر وحسب ما تناقلته وسائل الإعلام المحلية، فلقد تولت وزارة التعليم مسئولية متابعة المرض والمعرف عنه بأنه سريع العدوى والانتشار وإن كان ليس بالمرض الخطير على حياة الإنسان، واتضح من انتشار المرض الأهمية القصوى للتعاون بين الوزارات ذات الصلة لتصدي للانتشار المرض، وهما في هذه الحالة كل من وزارة التعليم وزارة الصحة.
وعلى كل حال فالتجارب السابقة مع الأمراض الوبائية تؤكد لنا التجربة بعد الأخرى بأن الوقت قد حان في المضي قدماً لإنشاء مركز متخصص في المملكة لمراقبة انتشار الأمراض والوقاية منها، وهناك سببان رئيسيان يجعلان أمر إنشاء المركز موضوعاً مُلحاً يقع في زاوية الحاجة الضرورية وليس الترف. أحد السببين والمباشر منهما هو أن إنشاء مركز مراقبة الأمراض في المملكة أمر حيوي وضروري للغاية إذا نظر إليه بأنه يرتبط برؤية المملكة 2030 التي تهدف إلى رفع الطاقة الاستيعابية للأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر من 8 ملايين حاج ومعتمر إلى 30 مليون حاج ومعتمر بحلول العام 2030، وهو الأمر الذي تم من أجله -مؤخراً- إطلاق مشروع رؤى الحرم بمكة المكرمة ورؤى المدينة بالمدينة المنورة، وهذا يعني أهمية أن يكون هناك مركز لمراقبة الأمراض مرتبط بقائمة بيانات مع وزارات الصحة ومراكز مراقبة الأمراض فيها في الدول الإسلامية كافة التي يصل منها حجاج ومعتمرين، وكذلك بعلاقة وثيقة مع منظمة الصحة العالمية وبعلاقة تعاون واتفاقيات تبادل للخبرات مع المراكز المتخصصة في مكافحة ومراقبة الأمراض في كل من أوربا والولايات المتحدة. والسبب الثاني والمهم وغير المباشر يتمثل بأن إنشاء المركز سيكون مثالاً عملياً ناصعاً لتمكين المرأة في المملكة، وذلك بالأخذ بالاعتبار بأن المركز في حالة إنشائه تتوافر له الكوادر السعودية النسائية القادرة على تشغيله والمؤهلة تأهيلاً عالمياً واحترافياً من أرقى الجامعات في العالم، ولعل على قائمة هؤلاء الدكتورة حياة سندي عضو مجلس الشورى السابقة والحاصلة على الدكتوراه في تخصص البحث العلمي من جامعة كامبريدج البريطانية والمتخصصة في تطبيقات التقنية الحيوية للاستخدامات الطبية، ولها مساهمات بحثية في نشر الوعي الصحي على المستوى الدولي وهي العربية الوحيدة ضمن الفريق العلمي المكوّن من عشرة علماء اختارتهم الأمم المتحدة خلال قمة التنمية المستدامة، وذلك لتنفيذ خطة جديدة للمنظمة الدولية باسم «تحويل عالمنا».
إن إنشاء مركز وطني في المملكة لمراقبة الأمراض أضحى أمراً في غاية الأهمية لسببين أحدهما خارجي وهو أن عالمنا أصبح كقرية كونية (Global Village)، ينتقل فيه الناس بكل يسر ومنهم من يكون ناقلاً لأمراض وبائية خطيرة، تحتاج إلى مركز متخصص مجهز بالكوادر والمعدات الطبية لمواجهة كل ما يتعلق بالأمراض الوبائية السارية والسريعة الانتشار- والسبب الداخلي مرده هو أن خطط وزارة الصحة لمستقبل الصحة في بلادنا يرتكز على تغطية الدولة صحياً لغالبية المواطنين عن طريق شركات التأمين المملوكة للدولة التي تعمل بطريقة غير ربحية، مما يجعل شئون مراقبة الأمراض والوقاية منها في حاجة لجهة متخصصة للقيام بذلك، وهو الأمر الذي يجعل موضوع إنشاء مركز لمراقبة الأمراض أمراً حتمياً لا مناص منه.