عبدالوهاب الفايز
نخشى أن يتحول التعليم إلى قضية من لا قضية له!
من منكم يقول الآن: ألا يكون مزعجا وغريبا ان يتحول التعليم إلى أمر يشغل الرأي العام نتيجة لأمور (لا تمس أولوياته). منذ عقدين من الزمن كان اهتمام القيادات التعليمية منصرفا إلى إدارة الصراع ومواجهة تحديات ومشاكل مرتبطة بـ (المنهج الدراسي)، وهذا استهلك جهد القيادات، وكان أثره سلبيا على البيئة التعليمية وجودة المخرجات، وتطور الإدارة، وفِي السنوات الأخيرة أيضا برزت مشكلة جديدة أمام القيادات، وهي إدارة أزمة (تعليق الدراسة) بسبب تقلبات الطقس، وكلتا الإشكاليتين.. الصراع على المنهج وأزمة ادارة الغبار والسيول، كلاهما كانا ينبغي ألاَّ يكونا هم القيادات التعليمية وشاغلها عن المهمة الأساسية وهي: تهيئة البيئة التعليمية، خصوصا أننا مقبلون على تطورات محلية رئيسية، والبشرية تستعد للتحول إلى الثورة الصناعية الرابعة.
بخصوص المناهج، الذي يتفق عليه وينادي به أهل التربية والتعليم هو أن المناهج يُفترض أن تعدها جهة مستقلة، والوزارة تنفذ، وتعليق الدراسة كان يفترض أن يكون الموضوع منوطا بـ(مجالس المناطق) التي تضم جميع القيادات الحكومية وممثلين عن الأهالي، فهذه هي من يقرر تعليق الدراسة إذا قدرت الاحتمالات والمخاطر، أي تشكل لجنة وهي التي تقر التعليق من عدمه.
هذا هو الإجراء الأسلم الذي لا يربك قيادات التعليم ولا يجعلها في تماس دائم مع الرأي العام، فتوتر العلاقة له تبعات سلبية على الاستقرار والسلام الاجتماعي. لقد شهدنا كيف تحول الصراع على المناهج إلى مشكلة ممتدة. هذه الحالة المزمنة، مع الأسف أوجدت البيئة لتشكل حالة انقسام اجتماعي في وجهات النظر، فأصبح لدينا (هم) و(نحن)، ورحم الله الامير نايف بن عبدالعزيز الذي أبدى انزعاجه الشديد، في احد اللقاءات في القيادات الاعلامية عام 2003، عندما وجد من الحضور من يدافع عن موقفه بالقول (هم) قالوا، حينئذ خرج الراحل الكبير من هدوئه المعروف ليضرب بيده اليمنى على الطاوله قائلا: (هذا الكلام الذي يُخيفني (هم) و(نحن).. هل تريدون شق المجتمع؟)
والراحل الكبير الأمير نايف كان على حق.. فأخطر ما يواجه مجتمعنا دائما هو (حالة الفرز والتصنيف)، الذي يأخذ بتفسير النوايا طريقا يسيرا لإدارة الصراع والانتصار للمواقف، وفِي السابق كان هذا الصراع بطيء التطور والتوسع، وكان يحتاج فسحة من الزمن لكي يصل إلى شريحة واسعة من الناس، وربما يَضعف او ينتهي قبل أن يعرف به البسطاء من الناس المشغولين بحياتهم. ولكن مع دخول وسائط التواصل الاجتماعي إلى غرف الأطفال والمراهقين.. هنا يصبح الأمر مخيفا أن تعي وتشاهد هذه الفئة صراعا قد لا تدرك أسبابه وتداعياته، فتنجر إليه منجذبة بحب الاستطلاع والإثارة، ولمن يدرك عواقب انفلات الأوضاع، يقول: هذا مصدر الخطر على السلام الاجتماعي!
تحديات المستقبل، ومشروع التحول الذي نعيشه ونتطلع إلى ثماره، والظروف الإقليمية المحيطة.. كل هذه يُفترض ان تستقطب اهتمامنا وطاقاتنا، فالمجتمع أمامه مهمة صعبة للتحول، والقيادة السياسية تحتاج الأوراق الضرورية لإدارة التغيير والدفع بالتحول، ولكن مع الأسف هذه الأوراق تستهلك في تجاذبات جانبية كان الأولى تحاشيها والتغافل عنها، ولكن ثمة أطراف في المجتمع وفِي الحكومة وفِي الإعلام ينطبق عليها المثل: مع مثل هؤلاء الأصدقاء.. من يحتاج أعداء!!
هذه الجبهات المفتوحة علينا تتطلب ان نوجِّه طاقاتنا، ومواردنا، وقوة جبهتنا الداخلية لاجل الاخذ بالتعليم إلى الحقبة القادمة التي سوف تشهد تبدلا كبيرا في طبيعة التعليم، ليتحول من أسلوب التلقين الممل إلى حقبة بناء المهارات الضرورية لتأسيس المواطن: الصالح والمنتج. نحن قررنا التخلي عن النفط كمصدر دخل وحيد لاقتصادنا، وهذا هو التوجه السليم الضروري لمستقبلنا، ولكن هذا الهدف الكبير يتطلب نفوسا كبارا، يتطلب تحويل الموارد البشرية لتكون (منتجة للثروة)، والحاضن الأول لهذه الموارد هو التعليم العام.
نحتاج التعليم الذي يبني مهارات مواجهة الحياة الضرورية، مثل مهارة ادارة الوقت، ادارة الضغوط، مهارة الذكاء العاطفي، وتجديد الذات، ومهارة العمل مع المجموعة مهارة إدارة الموارد. نحتاج المهارات التي تؤسس للتفكير العلمي المنهجي مثل مهارات الحوار، القرأة، التعبير، الخطابه، الفنون التشكيلية،. نحتاج مهارات التخطيط لتحقيق الأهداف، والابداع والابتكار، ومهارة التربية البدنية الاساسية للصحة العامة. طبعاً خبراء التربية هم الأعرف بالمهارات التربوية، وانا هنا اتحدث كـ (محفز للأفكار والآراء) فقط.
طبعا التحول إلى تعليم المهارات بهذه الصيغة التي يتطلبها المستقبل لن يكون مهمة يسيرة، فلدينا تحديات البيئة المدرسية، وتحديات (تحويل الذهنية) للمعلمين والمعلمات، وتحديات القيادات القادرة على قيادة وإدارة التغيير.
هذه التحديات التي يتطلبها مستقبل التعليم، وضرورات السلام والاستقرار الاجتماعي هي التي تجعلنا نقلق من توتر العلاقة بين المجتمع وقطاع التعليم. الذي ينظر لأرقام البطالة، ويرى عدد خريجي الجامعات والمعاهد هذه الأيام، ويدرك ان تكنولوجيا المعلومات والربوتات سوف تؤثر على سوق العمل بشكل كبير، هنا عليه ان يبدي (القلق الموضوعي)، أي الذي يُحلل ويتفهم طبيعة الأشياء، ثم يرجو خيرا بمن لديهم همة وحكمة رجال الدولة الذين يعرفون أن المنجزات لا تصنعها البطولات.. إنما يصنعها العمل الدؤوب المضني.