د. حسن بن فهد الهويمل
[أنا] وأقولها بثقةٍ، ووثائق وسطيٌ بكل معاني الوسطية الثلاثة:- العدل، والخيرية، والحسنة بين السيئتين:- الإفراط، والتفريط. ذلك ظني بنفسي، دونما تزكية.
وما أكتبه من سنوات يؤكد ذلك. بل يدعو إليه، ومن ثم فلستُ مدَّعياً الوسطية.
ثم إن الحياة لاتساوي عندي جناح بعوضة. ومايخالف ذلك من قول، أو فعل إن هو إلا مدفوع بالغرائز، والشهوات، لمجرد عمارة الكون:-
[لِدُوا لِلْمَوتِ، وَاِبنوا لِلْخَرابِ].
الدنيا بهذه الدونية لاتستحق التناحر، ولا التدابر المستشريان في وطننا العربي، حتى لكأننا خُلِقْنا للتفاني:-
[وَمُرَادُ النَّفُوسِ أَصْغَرُ مِنْ أَنْ ... نَتَعَادَىَ فِيْهِ، وَأَنْ نَتَفَانَى]
وتبقى الدنيا الدنيئة مع هذا مثارَ جدلٍ، واختلافٍ، وصراعٍ، وتصادمٍ، يغذيه التافهون، لحساب الناقمين على عروبتنا، وإسلامنا.
و[المتنبي] الذي عَبَدَها، وصف حال الإنسان فيها:-
[كُلَّمَا أَنْبَتَ الزَّمانُ قَنَاتاً ... رَكَّبَ المَرْءُ في القَنَاةِ سِنَانَاً]
وأنا مع [المتنبي] في تَحْقيره للدنيا، ومعه في ظلم الإنسان للإنسان شيمة، وخلقاً:- [والظُّلْم مِنْ شِيَمِ النُّفُوُس...]
ومَعَه حين يبرر مايرى من حروب مُتَعَاقِبَةٍ:-
[غَيْرَ أَنَّ الفَتَى يُلاقِي المَنَايَا ... كَالِحَاتٍ، ولا يُلاقِي الهَوانَا]
مع أنه لقي الهوان، وتجرع مرارته في مجلس [الحمداني]، و[الإخشيدي]. ورَفْضُ الهوان مربط الفرس، والمنطلق عند كل العقلاء الشرفاء.
فالإنسان يكون كريماً مسالماً، متواضعاً حين تتوفر له الكرامة، وحين لا يجد بداً من حمايتها، حماها ولو دفع حياته ثمناً لذلك.
ويكون وضيعاً حين يتطامن، ويقيم على الضيم، كـ[الوتَد] الذي يشج، وكـ[الحمار] على الخسف مربوطاً برمته.
مايبدو في خطابي من ضجر، وعنف، لايكون إلا حين يكون الهوان. العقيدةُ، والكرامةُ، والحريةُ، والوطنُ: ظرفاً، ومظروفاً خطوطٌ حمراء، لامزايدة عليها. وكم يُضَايَقُ الإنسان في شيء منها، فترتفع نبرة خطابه، ويجاهد بلسانه، وسنانه.
وحين لايستطيع المواجهة يعتزل القوم، ويلزم بيته، ويشتغل بخويصة نفسه:- {وأنْ تَعُضَّ على أَصْلِ شجرة حتى يُدركَكَ الموتُ}.
:- {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}، والإنسان لا يؤاخذ فيما لايملك. ومن الدعاء:- {وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}.
وطننا فوق كل شيء بأمنه، واستقراره، وعقيدته، وحريته، وكرامته. ومن هان عليه وطنه هانت عليه نفسه، بوصف الوطن مجموعة قيم، ذروة سنامها الدين.
الوطن مقرون بالدين، من حيث الأهمية، والأولوية:- {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ}. {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ}.
[المملكة العربية السعودية] دولة مسالمة، لا تُصدر مَذْهَباً، ولا تتعصب لمذهب، ولاتطمع بأرض، ولا بمال، ولا بسلطة. غير أنا لاندع لأحد الفرصة كي يعمل على إقلاقنا، وشغلنا عن مهماتنا، والافتراء علينا، والتقليل من شأننا، والتحريض علينا، كائناً من كان.
وعلى ضوء ذلك فمن حقنا الضربات الاستباقية، والتحرف لقتال، والتحيز لفئة لحسم الشر في مهاده.
نحن كيان مكتمل الأهلية، واجب الوجود، يمثل مجموعة من القيم، وواجبنا قطع دابر أي خطاب يزعزع هذا الكيان، أو ينتقص من قادته.
تختلف دولتنا مع دول، وأحزاب، ومنظمات، وأفراد، فنتيح لأنفسنا بوصفنا مواطنين فرصة المراقبة، والترقب.
على أمل أنها نزوة من متسرع، ثم تعود المياه إلى مجاريها. لا نتعجل، ولا نجازف، ولا تجرفنا العواطف، ولاتَعْصِف بنا الأهواء، ولانبادر توسيع هوة الخلاف. كل ذلك مقبول، ومتوقع. بل ربما يكون هو الأفضل، من كافة النخب.
ندع للمؤسسات المسؤولة: سياسياً، وعسكرياً، وإعلامياً ممارسة حقها، وحسم مايطفو حولها من مشاكل، ونرقب الموقف عن قرب، حتى إذا جد الجد، وأصبح صوت المواطن داعماً، وممهداً، ومناصراً، أصبح الساكت لحظتها شيطاناً أخرس.
وطننا جِلْدُنا:- و[مَا حَكَّ جلْدَكَ مثلُ ظُفْرك].
المواطن الصادق الأمين الملتزم يعرف لحظة التحرك. وحجم التحرك، وتصويب التحرك.
يمارس الكمون، والصمت حين لايكون لكلامه حاجة، مثلما تبقى بعض الوحدات العسكرية في ثكناتها، فيما تمارس وحدات أخرى مهماتها في ساحات القتال.
أما حين يتطلب الموقف رفع الصوت، فلا بُدَّ أن يرتفع، حتى لايدع فرصة لسماع بهتان الآخر، لاتسمعوا لهذا البهتان، والغوفية. إنها خطة من خطط المواجهة:- {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}. وسماعنا غير الواعي، وغير المحصن مظنة الانصياع، والضياع.
الدعم صنفان:- حسي، ومعنوي.
وقد يكون أحد الصنفين أهم من الآخر. والإبطاء في أداء الواجب تقْصير بحق الوطن، وإخلال بمقتضيات البيعة الشرعية الملزمة.
أقول قولي هذا، وأنا أسمع منكراً من القول، يجري في مفاصل الفكر العربي كله كالخدر، مصوغ كأحسن ماتكون الصياغة، مثير كأقوى ماتكون الإثارة، مُضِلُّ كأشد مايكون التضليل.
بَعَثَ به إلي من يظنون أني [خِبُّ يَخْدَعُنِي الخِبُّ]. لقد تلقيتُه برحابة صدر، واستمعت إليه بإنصات.
وقلت في نفسي كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمجادلة المشرك [أبي الوليد عتبة ابن ربيعة]:-
- أوقد فرغت أبا الوليد؟.
إذ لايضر المحق الواعي الاستماع، والتأمل في القول، لاتباع أحسنه.
ولكنني على يقين أن من قال لي، ولغيري لن يكون شهماً، كهذا المشرك الجلد، ليقول لي:- نعم. ثم يهيء نفسه، ليستمع مني. وهو شهيد.
صاحبنا ألجُّ من خنفساء. يقول، ولايسمع. ويملي، ولا يستملي. ويفرض رأيه، ولا يتيح لمجادله تفنيد مايقول. جنون العظمة، وتأليه الهوى أوحيا إليه بأنه لامعقب لقوله.
من هنا جاءت كوارث الأمة العربية المنكوبة بنخبها. العملاء ليسوا أغبياء، لأن اللّاعب يختار مُجَنَّده، ويصنعه على عينه، فلا مجال للتعذير.
[خالد مشعل] في الذكرى التسعين لحزب الإخوان المسلمين استخدم كل قدراته الخطابية، حتى لغَة الجَسَدِ أنهكها، وجيش البلاغة العربية بكل بيانها، وبديعها، ومعانيها لفرض عسفه، وتعسفه، ليختصر التاريخ العربي، والإسلامي بكل أحداثه في [جماعة الإخوان].
من حقه أن يعبر عن حُبِّه، وإعجابه، وإكباره، وإنتمائه للإخوان عبر تاريخهم الطويل.
وليس من حقه اختصار التاريخ العربي في أي كيان، فضلاً عن كيان الإخوان.
وليس من حقه أن يلغي الخطابات كلها، والمشاريع أجمعها، والدعوات التي يعج بها المشهد العربي.
وليس من حقه أن يجعل الخلاف مع [الإخوان] مصدر كل شر، والمراهنة على أن العاقبة لهم.
وليس من حقه أن يفجر، ويُخَوِّن [الأمة العربية] لمجرد أنها اختلفت مع [الإخوان]، أو مع [حماس]، أو مع [حزب الله]، أو مع [إيران].
فكم في أرض الله من ملل، ونحل، وأحزاب، ودول دائلة، أو قائمة.
لقد استنكر في عَصْمائه مواقفَ مُتَعدِّدة، لمجرد أنها تمس مصالح [إيران] وأذنابها. ولم يتمعر وجهه مرة واحدة -ولو من باب التقية- لما تتعرض له أرض المقدسات من اعتداءات سافرة، وتحديات ظالمة.