د. محمد عبدالله العوين
لا تريد أن تتذكر تلك الجماعة وما ارتكبته من جرم شنيع في بيت الله الحرام، أصبح اسم «جهيمان» يثير في نفسك كثيراً من الألم؛ لأن ذلك الضال مارس خديعة كبرى باسم الدين، زيف الواقع وأخرجه من دائرة الإسلام، وهيأ المخدوعين للقتال، لقد زرع بذرة التكفير في أتباعه بعد إيهام نفسي بالوعود المؤجلة، وحول خروجه من ترحل بين المدن والقرى يلقي فيها نصائحه إلى عمل عسكري مسلح لقلب نظام الحكم وتوجيه المجتمع والناس إلى ما يؤمن به من أفكار منحرفة، وزعم لنفسه أنه يستطيع إحداث مزيد من التأثير النفسي بـ«المنامات؛ فاستخدم الرؤى التي نقلت كثيرين من المخدوعين إلى عالم آخر غير واقعي اكتشفوا سرابه لاحقاً بعد أن حانت ساعة الحقيقة.
كنتَ واقفاً في صفوف المتفرجين، تزاحم قدماك أقدامهم لاصطياد فرجة خلف السياج الحديدي الذي يفصل ساحة الصفاة عن سوق «أشيقر» وتنتظر أن يبدأ السياف المتلثم إنزال سيفه اللامع تحت أشعة الشمس على رقبة زعيم العصابة؛ لكن قارئ البيان يرفع صوته بالاسم الأول «عيد بن سالم» فيطير رأسه ويتدفق الدم الأحمر القاني على الإسفلت كشلال ثم «ردن بن غازي» ثم الثالث والرابع، لا تتذكر أسماءهم إلى أن اكتمل العدد عشرة، يا لهول المشهد الذي لم تر له مثيلاً من قبل، كان اللون الأحمر سيد الموقف محاطاً بصيحات التكبير وبريق السيف وماء أبيض يتدفق خلف الدم لتنظيف الإسفلت.
تتذكر بقية ذلك اليوم الجامعي؛ فقد كان ما شاهدته حديث المحاضرات، وما من متحدث إلا كان سعيداً بسرعة الحكم والتنفيذ في تلك الفئة الباغية. وحين خرجت من الكلية تجر خطى كسلى حمدت الله أن أنجاك من مجالسة هذه الجماعة التي كانت تطوف المدن والقرى، وقد رأيتهم عام 1392هـ وأنت في السنة الثالثة من المرحلة المتوسطة كيف كانوا يتحببون إلى الشباب ويريدون أن تصحبهم فحذرك والدك من الذهاب معهم، وها أنت تدعو له الآن وتحمد له سعة أفقه ووعيه بما وراء الأكمة.
ولم تكن وجبة الغداء في سكن الجامعة بعمارة المعجل الواقعة على شارع البطحاء مقابل مقبرة العود وجبة عادية؛ فقد كانت طاولات الطعام أشبه بندوات سياسية وفكرية، لكن أشد الندوات سخونة تلك التي كان صوت «عبدالمجيد» الطالب الأردني المتحرر يلعلع فيها برفض فكر هذه الجماعات المتخلفة، ويدعو إلى رفضها بدون تحفظ أو استثناء، لقد كنتما متناغمين في التفكير وعلى خلاف كبير مع «صالح» الطالب المندفع إلى الفكر المتطرف الذي لا يكل ولا يمل من زيارتك في غرفتك بالسكن، فتتظاهر بأنك نائم أو غير موجود وتجد بعد أن تفتح الباب ورقة ملصقة محشوة بعبارات الأخوة والمحبة وطلب الأجر والرغبة في لقاء أخوي قريب، لكنك قد أعلنت الطلاق بلا رجعة من كل الجماعات الدينية وانطلقت حراً مستقلاً تكتشف ذاتك من جديد.