عبدالعزيز السماري
أثناء حقبة صراع الحقوق الإنسانية في أمريكا الشمالية، كان السود الذين يتكلمون من خلال الرؤية البيضاء العنصرية، يطلقون عليهم بيض على هيئة أفارقة، وكان الغرض من هذا التصنيف المحافظة على دعوات الحقوق والمساواة الإنسانية التي كان يرفعها دعاة الحقوق والأفارقة في المجتمع الأمريكي، وفي نهاية الأمر أُقرت الحقوق، وتم تطبيقها على أرض الواقع، ووصل أمريكي من أصول إفريقية إلى البيت الأبيض.
كذلك في جنوب أفريقيا أثناء حكم البيض العنصري للبلد الأفريقي، كان هناك من السود من يخضع ويسلم للبيض تفوقهم، ويقرّ بتفوقهم على السود، ومن ثم جدارتهم للانفراد بالحكم والمواطنة والفوقية، لكن ذلك لم يؤثّر في مبادرات النضال من أجل حقوق متساوية في البلد الأفريقي، وفي نهاية المطاف انتصر أصحاب الحق، وخرج المناضلون في قضية الحقوق الإنسانية، واستلم جنوب أفريقي منصب الرئيس لأول مرة منذ قرون..
أثناء الفترة القصيرة الماضية، خرجت في مجالنا الإعلامي أصوات تمجد لحق الدولة الصهيونية العنصرية في فلسطين، وتؤيّد من خلال منظور ديني لحق الاستيلاء على الأرض العربية، وأن الصهاينة دعاة سلام، ووصل الأمر إلى تهنئتهم بأعيادهم التي كان ذكراها الدماء والقتل والتهجير للعرب الذين كانوا يسكون الأرض لآلاف السنين، وتعرضوا لإبادات وتهجير متكررة إما من قبل الغزوات الصليبية أو الاستيطان اليهودي تحت ذريعة الحق المقدس..
وهو ما يجعل هؤلاء في منزلة أقرب للعقل المتصهين إن صح التعبير، وهي رؤية ترى القضية العربية في فلسطين من العقل الديني الصهيوني الذي يعتقد أن فلسطين أرض بلا شعب، وأن الله أعطاهم الأرض، وشرّع لهم حق قتل من يواجههم في هجرتهم إليها، كما حدث في إريحا قبل آلاف السنين حسب رواية العهد القديم، بعد أن استباح بني إسرائيل المدينة، ثم قتلوا سكانها جميعاً، بعد تدميرها بالكامل، ولم تثبت الحفريات أي أثر لهذه الإسطورة في أريحا.
المدهش في هذا الأمر أن بعض مرويات النقل عند المسلمين تنقل هذه الجريمة كقصة لنبي من أنبياء بني إسرائيل، وهو ما يعني أن التراث العربي الإسلامية يجب تنقيته من هذه الروايات التي تبرر لحروب الإبادة في فلسطين، وتخالف النص القرآني..
هذا الأثر عند الصهاينة اليهود والمسيحين كان الذريعة المقدسة لأساليب التهجير والإبادة الجماعية في أمريكا الشمالية، وفي فلسطين، وفي جنوب أفريقيا، فالحقوق حسب العهد القديم محتكرة لهذه الفئات عن بقية شعوب الأرض، والأغيار كما يطلقون عليهم في مرجعياتهم ليس لهم حق في الوجود، فما بالك بالحقوق الطبيعية الآخرى!
في الشرق العربي تشتعل صراعات مذهبية وأخرى سياسية، لكن ذلك لا يعني أن نقرّ بالتعريف اليهودي لقضية الحقوق، والتي يقوم على أسس دموية وعنصرية بشعة، فالمبدأ الذي وقفنا عليه منذ قرون أن سكان الأرض العرب لهم حقوق طبيعية فيها..
إذا قبل بعضهم بسذاجة بمصطلحات الحق اليهودي في الأرض المقدسة حسب أساطير العهد القديم، فإن ذلك يعني أن دولاً عربية يجب أن تسلم أجزاء من أراضيها لشعب الله المختار حسب زعمهم، وأن الأغيار العرب عليهم الاستسلام أمام تفوق العرق اليهودي، الذي يردد أن الله أصطفاهم، وأعطاهم الأراضي العربية بلا شعب.
وجّه الغرابة أن هؤلاء يتحدثون من خلال الأديان عند تناولهم لقضية الحق اليهودي المقدس في الأرض العربية، وحقهم في التهجير والإبادة، لكنهم داخل العقل العربي يرفضون مرجعية الدين ويطالبون بفصله عن السياسة، وهو ما يعني أنهم أصبحوا من دون علمهم صهاينة عقلاً، وهو المنطق الذي يعمل من أجل تنزيه الجريمة الإنسانية الكبرى في فلسطين، وقبلها في أمريكا الشمالية وجنوب أفريقيا.
كنت وما زلت أطالب أن يكون الخطاب تجاه القضية العربية مدنياً وحقوقياً وعالمياً، وليس دينياً، فالقبيلة العبرانية وأذنابها يستغلون النصوص الدينية وبعض المرويات التاريخية غير المثبتة، وبعض الأساطير القديمة لتبرير القتل المنهجي والتهجير والنفي لأصحاب الأرض تحت حجة الوعد الإلهي المقدس، وهو ما يخالف أبجديات الحقوق الطبيعية للبشر.