د.عبد الرحمن الحبيب
الضربة الثلاثية (أمريكا، بريطانيا، فرنسا) ضد أهداف عسكرية للنظام السوري، كان هدفها المباشر ردع هذا النظام من استخدام السلاح الكيماوي، لكن التصعيد الأكبر حدث قبلها بإعلان روسيا أنها ستضرب المواقع التي تنطلق منها الصواريخ الأمريكية إذا تعرضت قواتها للضرب، والرد الأمريكي بأنه إن حصل ذلك فستُمحى القاعدتين الروسيتين بسوريا من الوجود..
لغة تذكرنا بذروة الحرب الباردة في خليج الخنازير التي أثارت احتمالية حرب نووية أوائل ستينيات القرن المنصرم وأثارت رعب العالم بأسره، لكن بعد الضربة الثلاثية هدأت اللغة، فيما ألقت إدارة ترامب اللوم على الحكومة السورية وحلفائها الروس وتعهدت بالاستمرار إذا رأت ذلك ضروريًا.
ورد الرئيس الروسي بأن الضربة كانت «عملاً عدوانياً سيكون له تأثير مدمر على نظام العلاقات الدولية بأكمله».
هل بدأت فعلاً الحرب الباردة؟ الأمين العام للأمم المتحدة، غوتيريش، قال بعد الضربة مباشرة: «إن الحرب الباردة قد عادت بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لكن دون آليات التحكم التي ساعدت في الماضي بالسيطرة على التصعيد». في تلك الأثناء أطلق الرئيس ترامب رسالة تهدئة بدعوة الرئيس بوتين للقائه في البيت الأبيض مما أثار بعض الاستغراب لهذا التوقيت.
قبل عام، ظن كثيرون أن الصداقة الحميمة بين ترامب وبوتين ستلقي بظلالها الودية على العلاقة بين البيت الأبيض والكرملين، حتى أن الرئيس السابق أوباما أثناء مغادرته البيت الأبيض حذر ترامب من روسيا خشية هذه الصداقة. ولا يزال البعض يظن ذلك، رغم كل الوقائع التي تؤكد عكسه تماماً، فقد أظهرت سياسة ترامب أنها الأشد حزماً بالتعامل مع روسيا، فخلال سنة واحدة فقط قامت إدارته بما لم تقم به الإدارات السابقة مجتمعة بعد الحرب الباردة، وهي كما تلخصها المجلة الأمريكية فورين بوليسي:
إرسال مساعدات عسكرية قتالية لأوكرانيا، إغلاق قنصليتين روسيتين وملاحق دبلوماسية متعددة، طرد ستين دبلوماسياً روسياً، معاقبة شركات روسية، إضافة قائمة بعقوبات على مسؤولين روس، إجبار الشركات الإعلامية التي فتحت مقرات أمريكية مثل روسيا اليوم وسبوتنيك على التسجيل كوكلاء أجانب، عقوبات على شركات وأفراد روس يتعاملون مع كوريا الشمالية وإيران وأوكرانيا، أكثر من ثلاث مبادرات دفاعية لردع روسيا في أوروبا، ألقاء اللوم رسمياً على روسيا بسبب الهجمات على الإنترنت، قتل وجرح المئات من المرتزقة الروس وعشرات من القوات الروسية في سوريا التي لم يمسسها ضرر في ظل إدارة أوباما..
بعد كل ذلك ثمة من يظن أن ترامب لن يكون حازماً ضد روسيا! لأنهم يرون أن هذه سياسات الكونجرس وليست سياسات إدارة ترامب التي تقف ضدها. هذا أيضاً ما قاله وزير الخارجية الروسي لافروف بمقابلة مع صحيفة كوميرسانت الروسية. وهنا يعلق دانييل فاجديش (مستشار للمرشحين الجمهوريين للرئاسة) بأن لافروف محق بأن الكونجرس اعتمد العديد من العقوبات الجديدة على روسيا، لكن ترامب أيضاً أصدر بصلاحياته العديد من العقوبات على روسيا وآخرها وقوفه بصرامة مع بريطانيا في قضية تسميم سكريبال فضلاً عن تقليص الوجود الدبلوماسي الروسي بأمريكا. وهنا حسب فاجديش فإما أن لافروف يعيش في وهم أو يسوق حديثه للجمهور المحلي.. فإذا انتزعنا الأفكار المسبقة وسلوك ترامب العام خاصة في تويتر فسيتبقى لنا سياسة أمريكية هي الأكثر حزماً تجاه روسيا منذ نهاية الحرب الباردة.
في كل الأحوال، من الواضح أن الحرب الباردة ليس فقط بدأت بل انتقلت لمرحلة اللاعودة، فبداياتها ظهرت مع أزمة أوكرانيا، لكنها مختلفة عن الحرب الباردة في القرن العشرين.
في السابق كان هناك اختلاف أيديولوجي حاد بين منظومة رأسمالية وأخرى اشتراكية، بينما الآن كلاهما يمثلان نفس العقيدة الاقتصادية. وكانت المنظومتان يستظل تحت كل منهما مجموعة ضخمة من الدول، أما الآن فلا مقارنة بين صف الدول في الجانب الأمريكي مع قلة ضئيلة مع الجانب الروسي هي في الغالب دول فاشلة.. إضافة إلى أنه لا مقارنة بين القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية الهائلة لدى أمريكا بتلك الروسية..
إلا أن أهم اختلاف هو أن الجيشين الأمريكي والروسي لم يلتقيا في السابق بمواجهة مباشرة بينما الآن ثمة احتمال وارد في سوريا. يرى ديمتري ترينين مدير مركز كارنيغي بموسكو أن روسيا وأمريكا أصبحتا لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية في نفس البلد! يمكن للقادة العسكريين في كلا الجانبين فعل الكثير لتجنب الحوادث، لكن السياسيين هم من لديهم القرار. ورغم أن الضربة الثلاثية كانت رمزية لحد كبير، لكنها أوصلت العلاقة بين روسيا والغرب لوضع سيء، لكنها لن تُعرِّض السلام الدولي للخطر. ومن المرجح أن يتصاعد النهج الأميركي تجاه روسيا، وسيصبح الضغط غير محتمل على موسكو حسب ترينين.
سيناريو الحرب الباردة ما زال في مقدماته، والاحتمالات مفتوحة على مصراعيها من التهدئة إلى المواجهة، لكن الواضح أن السياسة الأمريكية الحالية ستضغط تصاعدياً على روسيا وعلى حلفائها الذين بدأ يتحول وضعهم الى موقف دفاعي.. وإذا كان بوتين لديه إيمان مطلق بعدم التنازل للغرب، فربما عليه هذه المرة أن يعيد التفكير فالكفة ترجح بكل وضوح لصالح الغرب.