المتمعن في رؤية المملكة 2030 يجد أنها رؤية مجتمع طموح تسعى من خلالها القيادة للارتقاء بالدولة والمجتمع لمصاف الدول والمجتمعات المتقدمة، وذلك من خلال تحقيق أهداف هذه الرؤية على شكل مؤشرات أساسية قابلة للقياس يتم تنفيذها على مراحل متعددة في المستقبل خلال إطار زمني محدد. جانب آخر إيجابي في هذه الرؤية هو رغبة الدولة وقيادتها في الارتقاء بمستوى الخدمات المعيشية والحياتية للمواطنين في مستويات عدة بما في ذلك الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والترفيهية والصحية والتعليمية وغيرها.
وتنطلق هذه الرؤية من ثلاثة مرتكزات رئيسية، تمثلت أولاً فيما تتميز به المملكة من العمق العربي والإسلامي، وثانياً قوتها الاقتصادية والاستثمارية، وثالثاً موقعها الجغرافي الاستراتيجي والذي يعد محوراً لربط القارات الثلاث.
ظهرت رؤية المملكة 2030 في زمن البيانات والمعرفة، حيث إن من خصائص هذا الزمن كما يقول بيل جيتس إن الموارد الطبيعية الحاسمة هي الذكاء الإنساني والمهارة والقيادة والإدارة.
وقد تضمنت هذه الرؤية الاستثمار في العديد من المجالات والموارد بما في ذلك المجالات الاقتصادية والترفيهية والاجتماعية والتعليمية والصحية والموارد البشرية وغيرها. وقد حظي تطوير القطاع الحكومي بأهمية في هذه الرؤية، حيث أشارت الرؤية إلى برنامج متكامل يهدف إلى إعادة هيكلة القطاع الحكومي وجعله عالي المرونة، بالإضافة إلى تركيز الرؤية على الالتزام بأن تكون المملكة من أفضل دول العالم في الأداء الحكومي. كما أن الرؤية تشدد على أهمية مشاركة القطاع الحكومي بمؤسساته وإداراته كافة في تنفيذ برامج الرؤية، وذلك من خلال قيام كل مؤسسة بما عليها من أدوار ومسؤوليات، حيث سيعتمد تحقيق بعض من أهداف الرؤية على الحاجة لتوفر كم كبير وهائل من البيانات والمعلومات الحكومية بأشكال وصيغ مختلفة والتي سوف تكون مصادرها من المؤسسات الحكومية. والسؤال المهم في هذا الخصوص، هو عن مدى جاهزية المؤسسات الحكومية في توفير البيانات اللازمة لتحقيق أهداف الرؤية، وهذا بدوره يتطلب الوقوف على واقع ممارسات المؤسسات الحكومية في مجال إدارة وحكومة البيانات والمعلومات ومدى جاهزيتها للمساهمة في مبادرة البيانات المفتوحة والتي أصبحت ظاهرة عالمية ومهمة لكثير من الدول المتقدمة، وأصبحت تشكل أولوية سياسية واقتصادية لكثير من الدول وصناع السياسة ومتخذي القرار.
يقصد بالبيانات المفتوحة كما ورد في موقع بوابة البيانات المفتوحة هي «تلك البيانات التي يُمكن لأي فرد استخدامها بحرية ودون قيود تقنية أو مالية أو قانونية وأيضًا إعادة استخدامها ونشرها مع مراعاة متطلبات الرخصة القانونية التي تم نشر هذه البيانات بموجبها». ويشمل ذلك نشر مجموعات البيانات الخاصة بالوزارات والجهات الحكومية في شكل بيانات مفتوحة مثل بيانات الميزانية والإنفاق، السكان، الإحصاءات، والبيانات المتعلقة بالأحوال الجوية والمناخ، والنقل العام، الحركة المرورية، التعليم، الصحة وغير ذلك من البيانات.
وقد تبنت العديد من الدول حول العالم مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا واليابان وكوريا الجنوبية وبعض الدول في الاتحاد الأوروبي وأستراليا وغيرها العديد من المبادرات المتعلقة بالبيانات المفتوحة، والتي كان لها إسهام إيجابي على مجتمعات تلك الدول في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية والترفيهية وغيرها من المجالات الأخرى. واستجابة للتوجهات العالمية، وإدراكاً من القيادة بأهمية البيانات المفتوحة ودورها الاقتصادي والاجتماعي والتنموي، فقد ظهرت مبادرة البيانات المفتوحة في المملكة عام 2014. حظيت المبادرة منذ ظهورها بنوع من الاهتمام من بعض الجهات والتي أخذت هذه المبادرة إلى الإمام وعلى رأس هذه الجهات برنامج يسر للتعاملات الإلكترونية والذي يعد المنسق الرئيسي لهذه المبادرة. حيث كان للبرنامج دوراً مهماً في تأسيس ونشر مفهوم البيانات المفتوحة بين الجهات الحكومية، عقد ورش العمل التعريفية وإنشاء بوابة البيانات المفتوحة (http://www.data.gov.sa) والتي تتضمن مجموعة من البيانات المفتوحة المنشورة من قبل الجهات الحكومية، بالإضافة إلى جهود العديد من الجهات الحكومية والتي كان لها مساهمات إيجابية في هذه المبادرة.
يمكن للبيانات المفتوحة أن تحقق العديد من الفوائد الإيجابية للمجتمع. على سبيل المثال، تعزز البيانات المفتوحة مفهوم الشفافية والمسؤولية في التعامل بين الجهات الحكومية والمواطنين، كما أنها تسهل الوصول للبيانات الحكومية. وقد شددت رؤية المملكة 2030 على تعزيز مفهوم الشفافية والمساءلة في جميع القطاعات وتشجيع ثقافة الأداء مما سيحقق التنمية في شتى المجالات.
وتدعم البيانات المفتوحة هذا التوجه انطلاقاً من مبدأ الشفافية وذلك من خلال نشر البيانات الحكومية وإتاحتها والمساهمة في ردم الفجوة بين الجهات الحكومية والمواطنين، بحيث يستفيد المواطنون من البيانات المقدمة من عدة نواحي مختلفة، مثلاً أن يتعرف المواطن على كيفية عمل المؤسسات الحكومية، إتاحة الفرصة للمواطنين لتقييم أداء الوحدات الإدارية المختلفة، وإعطائهم الفرصة لإبداء آرائهم حول السياسات العامة مدعومة بالبيانات والمعلومات اللازمة، بالإضافة إلى استخدام البيانات المفتوحة من قبل الباحثين لإجراء الأبحاث وكتابة التقارير وإبداء الملاحظات والآراء.
وعلى الجانب الاقتصادي فإن للبيانات المفتوحة قيمة مضافة، ويمكن الاستفادة منها في النمو الاقتصادي، وتحفيز القدرة التنافسية، وإنشاء قطاع جديد يعتمد على الاستثمار في البيانات ومنتجاتها وخدماتها، بالإضافة إلى توفير البيانات والمعلومات للشركات والمستثمرين.
وقد أشار وزير الاتصالات وتقنية المعلومات المهندس عبدالله عامر السواحة في منتدى اليمامة للاتصالات وتقنية المعلومات 2018 والذي نظمته جامعة اليمامة بمدينة الرياض يوم الأحد 16-6-1439هـ الموافق 4-3-2018م إلى أن سوق البيانات المفتوحة تشكل فرصة اقتصادية بحجم 12 مليار ريال والتي تعادل 1 في المائة من حجم الناتج المحلي غير النفطي، وأن البيانات ستشكل عامل مهماً في العرض والطلب في سوق العمل.
كما أن للبيانات المفتوحة دور مهم في دعم الابتكار والمشاركة المجتمعية، ومن ذلك من خلال إتاحة البيانات لمجموعة واسعة من أفراد المجتمع للتعامل معها ومعالجتها واستكشافها وتطويرها، حيث يمكن الاستفادة من المعرفة الجماعية والوصول إلى كم كبير من الخبرات والمهارات والمصادر الخارجية، سواء في القطاع العام أو الخاص.
كما أن نشر البيانات المفتوحة يدعم الابتكار من خلال تطوير خدمات ومنتجات مبتكرة جديدة، والتي قد تفتقر إليها العديد من المؤسسات الحكومية.
إلا أن الواقع الحالي للبيانات الحكومية المفتوحة يحتاج إلى إعادة تقييم ونظر ومراجعة الإجراءات والتدابير المرتبطة بها.
على سبيل المثال، في الترتيب العالمي لمؤشر البيانات المفتوحة Open Data Barometer لعام 2016 حصلت المملكة على الترتيب 57 وتراجعت إلى 74 في عام 2017.
ويمكن إبراز أهم المشاكل التي تواجه الجهات والمؤسسات الحكومية في نشر البيانات المفتوحة في النقاط التالية:
* ضعف جودة البيانات المنشورة من حيث المحتوى والواصفات المستخدمة في التعريف بها.
ويشمل ذلك دقة البيانات وصحتها، حداثة البيانات، معطيات البيانات وغيرها من الجوانب الأخرى.
* قضايا متعلقة بالخصوصية وسرية البيانات والمعلومات، سواء كانت متعلقة بالأفراد أو المؤسسات.
* ضعف الاهتمام والوعي بمفاهيم البيانات الحكومية المفتوحة بين المسؤولين ومتخذي القرار في كثير من الجهات والمؤسسات الحكومية.
* جوانب تقنية مرتبطة بنوعية وأشكال وصيغ الملفات وعدم الالتزام بمعيار موحد، بالإضافة إلى ضعف الإمكانات التقنية المرتبطة بتحليل البيانات وعرضها والأدوات اللازمة لذلك.
* سوء استخدام وتفسير البيانات المفتوحة من قبل من يستخدمون البيانات، وذلك بسبب افتقار تلك البيانات للسياق الذي تتناوله.
* ملكية البيانات وتضارب المصالح بين الوحدات الإدارية داخل الجهات والمؤسسات الحكومية.
ولتعزيز نجاح دور البيانات الحكومية المفتوحة في دعم رؤية المملكة 2030 يجب أن توضع هذه المبادرة على أجندة الجهات والمؤسسات الحكومية على أنها مشروع وطني له نتائج إيجابية في العديد من المجالات ويشمل ذلك المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والسياسية والثقافية والإعلامية والتنموية والعلمية وغيرها من المجالات الأخرى، وربط مبادرة البيانات المفتوحة ببرنامج التحول الرقمي للمملكة، على أن يؤخذ في ذلك العديد من الاعتبارات من أهمها:
* يجب أن تدعم مبادرة البيانات المفتوحة بإطار قانوني متكامل يضمن ضبط الآلية التي تتم بموجبها يتم نشر البيانات وتداولها واستخدامها وتوظيفها في المجالات المختلفة.
* ينبغي أن يكون هناك لجنة استشارية على المستوى الوطني تعمل على إدارة وتطوير مشروع مبادرة البيانات المفتوحة، بحيث يمكن من خلاله تقديم الاستشارات والخبرات بين المؤسسات الحكومية.
* تحويل البيانات الحالية إلى بيانات رقمية ويشمل ذلك البيانات القديمة المخزنة على ملفات يدوية أو مؤرشفة بشكل يدوي، ونشرها على البوابة الوطنية للبيانات المفتوحة.
* يجب على صناع السياسة ومتخذي القرار في المؤسسات الحكومية ربط مبادرة البيانات المفتوحة بالإطار المنظومي القائم والذي يضع المبادرة ضمن أهداف برنامج التحول الرقمي والجوانب الأخرى المرتبطة بذلك.
* هناك حاجة لتعزيز وزيادة الوعي الرسمي والمجتمعي بمفهوم وثقافة البيانات المفتوحة بين أصحاب المصلحة المعنيين وتوضيح القيمة المضافة للبيانات المفتوحة وكيف يمكنهم الاستفادة منها بالإضافة إلى عوائدها الإيجابية على المجتمع ككل، وتوفير الدعم المادي والمعنوي لذلك.
* إيجاد قنوات جديدة وفعالة للتواصل بين المؤسسات الحكومية وأفراد المجتمع فيما يتعلق بالبيانات المفتوحة والتفاعل مع أسئلتهم واستفساراتهم عن البيانات المفتوحة.
* الاستفادة من خبرة ومعارف أفراد المجتمع من خلال فتح باب الإبداع والابتكار لحل مشاكل المجتمع.
يمكن تحقيق ذلك من خلال عمل مسابقات التحديات وإيجاد الحوافز للاستفادة من البيانات المفتوحة وبناء التطبيقات من خلال تحليل البيانات.
* كما ينبغي أن يكون للمسؤولين الحكوميين دور مباشر في متابعة ورصد ما يتم إنجازه في المؤسسات الحكومية وتقديم الدعم والمساعدة في التغلب على العوائق والتحديات التي تواجه المؤسسة في المضي قدماً في مبادرة البيانات المفتوحة.
* لتطوير مبادرة البيانات المفتوحة وجعلها على مصاف المبادرات العالمية، يجب النظر وبشكل مستمر إلى أفضل الممارسات الناضجة وخبرات بعض الدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وسنغافورة وكوريا الجنوبية.
* وأخيراً على المؤسسات التعليمية في الجامعات والكليات الاهتمام بموضوع علم البيانات وإيجاد البرامج والمقررات الدراسية ذات العلاقة بالبيانات المفتوحة والبيانات الضخمة والربط بين الجانب النظري والتطبيقي وتأهيل الخريجين والخريجات المتخصصين وسد الحاجة المتزايدة لهذا المجال في سوق العمل.
وفي الختام، يجب النظر إلى مبادرة البيانات المفتوحة على أنها مشروع وطني يحقق العديد من الفوائد وله نتائج إيجابية في العديد من المجالات ويشمل ذلك المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والسياسية والثقافية والإعلامية والتنموية والعلمية، كما أنها تعزز جوانب مختلفة مثل الشفافية والمسؤولية، ودعم الابتكار، وتسهيل الوصول للبيانات الحكومية، وتطوير الخدمات والمنتجات التي تقدمها الجهات والمؤسسات الحكومية. وفق الله الجميع بما يحبه ويرضاه.
** **
- الأستاذ المشارك بقسم إدارة المعلومات، كلية علوم الحاسب والمعلومات، جامعة الإمام
Twitter: @Drmaltayyar