إن التفكير في الفرق بين اليوم والغد تماماً كما الفرق بين الأمس واليوم.. (وبينهما أمور متشابهات)، فنحن نتعلم من الماضي، وندرس الحاضر، لنستشرف المستقبل ونحاول صنعه. وعندما نحاول اكتشاف واقعنا أكثر فاحتمالات المستقبل تكون رهن الاختيارات التي نعمل عليها في الحاضر.. إن هذا من أهم تحديات التربية وتطوير المناهج في القرن الحالي.
إن تبيان أشكال المستقبل وتغيير ما يمكن تغييره وتحديد مجالات التطوير اللازمة معرفياً واجتماعياً وأخلاقياً وسلوكياً والتي ينبغي أن تُغرس في الجيل الجديد لبناء مواطن صالح.. كل ذلك يبدأ من التعليم.. وفي حقيقة الأمر هو يبدأ أولاً ولا ينتهي.. فنحن مازلنا نتعلم إذن ما زلنا نستطيع أن نتغير ونتطور.
عادة يكون الضوء مسلطاً على (المناهج) فهي المحرك الأساسي للعملية التعليمية، والمقوّم الأكبر -مع وجود عناصر ومدخلات أخرى في النظام- إلا أن المنهج هو القاعدة التي تبني عليها عناصر العملية التعليمية نجاحاتها وإنجازاتها. وكما أن المناهج هي ركيزة التعليم، فإن الأسس التربوية التي تقوم عليها هذه المناهج هي جوهر التطوير ونقطة الإنطلاق.
فنحن في حاجة إلى أسس تناسبنا؛ تقوم وزن المناهج وتعيد لها الاستقرار وتطبق الجودة. فالمنهج هو فلسفة المجتمع وانعكاس لرؤية فلسفية واجتماعية وثقافية ونفسية ومعرفية. ويشهد الواقع أن ما تحويه المناهج هو تعبير عن واقع تلك المجتمعات وتكوينها.
ولو تتبعنا تطور الأسس الفلسفية الغربية من خلال نظرة بعض الفلاسفة والمفكرين نجد «فرانسيس بيكون» يرى أن ضحالة الفكر هي التي تؤدي بالإنسان إلى الإلحاد، في حين أن الفكر العميق لابد أن ينتهي بالعقول إلى الإيمان. وكان «جون لوك» يعتقد في قدرة العقل على إثبات وجود الله. ولكن نظرة «كانط» نحو استخدام العقل في دراسة اللاهوت كانت مختلفة والتي يراها محاولة عقيمة لا جدى من ورائها. و»نيتشه» الذي بلغ من التطرف إلى حد اعتبار الدين والمعرفة كالماء والنار لا يجتمعان أبداً. فقد ربط بعضهم الدين بالعلم، بينما فصله البعض.. واستقروا أخيراً على أن تكون مناهجهم بعيدة تماماً عن الدين ولا تقترب منه -لقد اختاروا طريقهم ومنهجهم- ولربما لو رُبطت مناهجهم بالدين لتبين لهم هشاشة عقيدتهم وضحالتها.. {لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}.
إن هذا الفصل بين أمور الدين والدنيا لم يتداركه إلا الدين الإسلامي؛ الذي كان ومازال وثيق الصلة بالأسس الفلسفية والمعرفية والثقافية والاجتماعية وجميع ما يرتبط بحياة الإنسان، وبالعلم بشتى أنواعه. وإذا أدركنا أن تلك الأسس والنظريات التربوية الكامنة وراءها هي المدخل الأساسي والمطوّر الرئيسي لتحديد ملامح خريطة المنهج، ورسم الإطار العام الذي تُبنى عليه عناصره وتحقق تلك العناصر نجاحاتها من خلاله، لنعلم مدى أهمية اختيار تلك الأسس ومراعاتها لاحتياجات الفرد والمجتمع والتي تحدد الفارق بين الأمس واليوم وتصنع الغد في ضوء تصور إسلامي يوجه السلوك ويهدي القيم ويبني الأخلاق، فأصول العقيدة ثوابت، وهي بمثابة «متغير مستقل»، في حين نجد أن سلوك الفرد وانعكاس ذلك على المجتمع بمثابة «المتغير التابع».
ليست المناهج المنسوخة شاهداً على التطوير، فلم يكن التقليد يوماً نجاحاً إذا لم يُكن مُنفِّحاً، دروساً، فالارتجال والتلقائية دليل على غياب المنجية. ولا يُعد استيراد الثقافة وشواهد التقدم الحضاري توجهاً جيداً لو تداخل مع معاييرنا الإسلامية، أو تُراثنا الاجتماعي، أو حتى قدراتنا الثقافية التي يجب أخذها بالاعتبار ليكون المنهج الجديد ملائم لنا في جميع الجوانب، فنحن هنا نُقر بأن تطوير المنهج يجب أن يُبنى على أسس شاملة متكاملة مستمرة وفق مجتمعاتنا وثوابتنا الإسلامية، تُمهد الطريق لإعمار الحياة كما أُمرنا فـ{هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}.
** **
باحثة دكتوراه/ المناهج وطرق التدريس - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية