حمّاد السالمي
«عندما حضر الكلام على مرض الجَرب في صفوف تلاميذ مكة المكرمة؛ حضرت عندي سيرة (الجمل الأجرب)، الذي كان والدي رحمه الله؛ يصر على أن يكون هو سحورنا الوحيد في كل يوم طيلة شهر رمضان المبارك من كل عام، حتى أنه كان يقول لنا: (كل الجمل الأجرب ما تغلب)..! ثم أصبحنا راعين حافظين لهذا التقليد حتى يوم الناس هذا. وسوف أكشف عن لغز (جملنا الأجرب) هذا في آخر المقال.
«لفت نظري خبر ظهور جمل أجرب في الطائف بعيد ظهور جرب مكة، فما هي إلا عشية أو ضحاها؛ حتى أغارت عليه جحافل أمانة الطائف، فأخفته..! قلت: أليس جمل الطائف في حكم جمل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ الذي ورد ذكره في رواية سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي قال : اشتد الحر ذات يوم؛ وعلا اللهيب يشوى الوجوه، وآوى الناس إلى بيوتهم خوفًا من الظهيرة، وأنا أنظر من فوهة في بيتي، فوجدت رجلًا يشتمل ببردته، ويجري وراء جمل أجرب في الصحراء، فنظرت إليه وتابعته، فلما عاد؛ إذ بي أجده أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، قلت يا أمير المؤمنين: أتجري وراء جمل أجرب..؟ قال: إيه يا عثمان. إن هذا الجمل من إبل الصدقة، وهو حق الفقراء، فخفت أن يضيع فيسألني الله عنه يوم القيامة..!
«لن أدخل فيما قيل ويقال عن (جرب) أبنائنا التلاميذ سواء في مكة المكرمة أو في سواها، ولكني أتوقف عند تجريم وزارة التعليم في هذه المسألة، وكأنها المسئولة عن النظافة والصحة (عامة وبيئية) بمعزل عن الصحة والبلديات في مكة. ثم إن الطريقة التي اتبعها المسئولون في معالجة هذه الظاهرة، تؤكد من جديد؛ أننا لا نعرف كيف نواجه الأزمات الطارئة. متى توجد إدارات محلية على مستويات المناطق والمحافظات للتدخل السريع وإدارة الأزمات بشكل منظم..؟
«دعونا من هذا كله. لماذا اختار الجرب مكة المكرمة..؟ هل لهذا جذور تاريخية..؟ خاصة وأن مما تعارف عليه الناس في دعاء البعض على الآخر قولهم: (عساك بحكة، وجرب مكة)..! لا بد وأن نبحث في الأسباب إذا أردنا القضاء على الجرب وبسرعة قبل موسم الحج.
«مرض الجرب يا سادة؛ قديم جدًا، ومعروف عند العرب، ولكن لم يُعرف ويُعهد عنه أنه يصيب البشر. الجرب كان يظهر في الجمال وفي الماعز دون بقية الدواب الأخرى مثل: البقر والحمير والضأن والقطط والكلاب، وكان الناس فيما مضى وخاصة في القرى؛ يعالجون الجرب في جمالهم وماعزهم بـ(القِطران). وهو سائل قاري لزج يستخلص من عيدان شجر العِتم الأخضر بعد تحريقها، فتدهن به المناطق المصابة، وكان هذا شائعًا في قرى الطائف، وبلغني أن متخصصًا في استخلاص هذا الدواء؛ يعرضه اليوم لطالبيه في شيحاط قريبًا من قرية الكوثر في الصخيرة. ويبدو أن القطران علاج قديم، فقد ورد أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ رأى أعرابياً معه جمل أجرب، فقال له: يا أخا العرب: ماذا تفعل بهذا الجمل الأجرب؟ قال: أدعو الله أن يشفيه، قال: يا أخي.. هلا جعلت مع الدعاء قِطراناً..؟
«وللجرب حضور في شعر العرب وأدبياتهم وأمثالهم، ما يدل على أنه قديم قدم البشر. قال شاعرهم يشكو نفرة قومه منه:
إذَا مَا جِئْتُهُمْ يَتَدَافَعُونِي
كَأَنِّي أَجْرَبٌ أَعْدَاهُ دَاءُ
«وفي قصة الحجاج بن يوسف الثقفي مع أحد رعيته الذي أُخذ بدلًا من أخيه المبحوث عنه، تمثل الحجاج بقول الشاعر:
جانيك من يجني عليك وربما
تعدّى الصحاح مبارك الجرب
ولرب مأخوذ بذنب عشيرة
ونجى المقارف صاحب الذنْب
«ونقف على بيت للبيد بن ربيعة؛ يصف فيه تغير الناس والأيام، ويذكر أخاه أرْبَد فيقول: ذهب الذين يعاش في خيرهم، وها أنذا أعيش مع بقية من الناس لا فائدة فيهم، الذين هم كجلد الجمل الأجرب.
ذهب الذين يُعاش في أكنافِهـمْ
وبقيتُ في خَلْفٍ كجلدِ الأجربِ
«قال بعضهم: إن (الخلْف) بتسكين اللام؛ تقال لمن هم أبناء السوء، وأما خلَف (بفتح اللام)؛ فهم أبناء الخير. وكان دليلهم الآية الكريمة: (فخَلَفَ من بعدهم خلْفٌ أَضاعوا الصلاةَ واتبعوا الشهوات).
«وفي زمننا الحاضر؛ ظهرت (كتيبة السيف الأجرب)، ذات المهام الحساسة، والمكونة من (5000 عسكري)، والتي أخذت اسمها على ما يبدو من (السيف الأجرب).. ذلك السيف الشهير في تاريخ الدولة السعودية المجيدة، الذي يعود للإمام تركي بن عبد الله بن محمد آل سعود، مؤسس الدولة السعودية الثانية، والذي قال في سيفه:
يوم إن كل من خويه تبرا
حطيت الأجرب في عميل مبارى
نعم الرفيق إلى سطا ثم جرا
يودع مناعير النشامى حبارى
«أما جملنا الأجرب؛ الذي هو سحورنا منذ الصغر حتى اليوم؛ فهو رز يطبخ إلى قرب استوى، ثم يضاف إليه شيء من الدقيق، ويعصد حتى يستوي، ثم يغرف في الصحن، ويضاف إليه في فجوة في وسطه سمن بلدي، ومن بعد ذلك اللبن. يا له من (جمل أجرب)..! لا يشعر الصائم بعده بجوع أبدًا. وقد سمي أجربًا؛ لبروز حبات الرز الأبيض بين عصيد الدقيق الأسمر، فيبدو في الصحن كجرب في جلد بعير مجروب.
«كل (جمل أجرب)؛ والجميع بصحة وسلامة، لا (جرب) معها ولا ما (يجربون).