لا شك أن مجتمعنا السعودي الفتي - كأي مجتمع من المجتمعات الأخرى - يعيش اليوم بمكوناته ومتغيراته انفتاحًا معلوماتيًّا، وانفجارًا تقنيًّا، وتحولاً ثقافيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا رهيبًا.. يشهدها نسيجنا المجتمعي بسبب وتيرة التحديث والمعاصرة التكنولوجية التي ألقت بظلالها ووزرها على واقع النسق الأسري وبنائه تحديدًا؛ فبرزت شبكات التواصل الاجتماعي أو الإعلام الاجتماعي الجديد بثوبه التقني القشيب، وكذلك الألعاب الإلكترونية في عالمها الافتراضي؛ وبالتالي باتت الأسرة تواجه كثيرًا من التحديات الثقافية في قالبها الرقمي؛ فظهرت بعض الظواهر الاجتماعية الخطيرة التي تهدد سلوك وثقافة ووعي الأطفال..
ومن هذه (القضايا الوبائية) التي غزت عقول وعواطف وخيال وسلوك بعض الأطفال ناشرة أذواقًا وقيمًا وعادات شاذة ما يسمى بـ(الإدمان التقني) في الألعاب الإلكترونية المختلفة. ومعروف أن هذه الأجهزة والألعاب المختلفة أصبحت في متناول مراحل عمرية معينة، وهي تحديدًا فئة الأطفال والمراهقين الذين يقضون ساعات طويلة أمام شاشات الأجهزة الإلكترونية، يعيشون في عالمهم الافتراضي تفاعلاً غير عادي لدرجة قد تهدد اتجاهاتهم السلوكية والأخلاقية والنفسية والاجتماعية والعاطفية والانفعالية والعصبية والصحية والفكرية إذا ارتفع هرمون (الإدمان التقني) واتسعت دائرة التعاطي في هذا العالم الافتراضي.. فقد عكف الأطباء النفسانيون على البحث عن أسبابها ودوافعها, وعن الاستعمال اللاعقلاني المبالغ فيه، وأصبح لهذه الظاهرة أسماء عدة، أطلقها العلماء والباحثون المتخصصون.. مثل الاستخدام الباثولوجي للإنترنت, وهوس الإنترنت، وغيرها من الأسماء التي تأخذ صبغة الإدمان والارتهان في هذا العالم الافتراضي!! وطبقًا لاستطلاع، أُجري عام 2005م، نظمته جامعة ستانفورد الأمريكية، فقد تم من خلالها تحديد معدل قضاء الوقت في استخدام الإنترنت بشكل عام (3 ساعات ونصف الساعة يوميًّا) بأنه يدخل في نوبة الإدمان..!!!! ولذلك أقرت الجمعية الأمريكية للطب النفسي (APA) وضع (الإدمان على الإنترنت) ضمن قائمة أنواع الإدمان المعروفة التي تتطلب العلاج, بعد أن عرفت الإدمان الإلكتروني بأنه: اضطراب يُظهر حاجة سيكولوجية قسرية نتيجة عدم الإشباع من الاستخدام. والمصاب بهذا الاضطراب يعاني أعراضًا عديدة، وآثارًا خطيرة، إذا اتسعت دائرة هوس المواقع الإلكترونية. وبعض الهيئات تضع (هوس الإنترنت) ضمن قائمة الأمراض النفسية، خاصة بعد أن أكدت الإحصائيات بوضوح ارتفاع معدلات الإصابة به, كما أكدت بعض الدراسات في (علم النفس الشخصية) أن أكثر الحالات قابلية للإدمان الإلكتروني هم الشخصيات المكتئبة والقلقة, والشخصيات التي تعاني الفراغ العاطفي والملل والوحدة, والانسحاب الاجتماعي.. فبقدر ما لهذه الأجهزة الإلكترونية من إيجابيات وفوائد عدة، منها الترويح عن النفس، كما أن اللعب - حسب معطيات علم الاجتماع التربوي - يوسع المدارك، وينمي المهارات الإبداعية، شريطة أن يكون أسلوب التعامل والتفاعل معها واستخدامها بصورة أكثر اتزانًا ووعيًا، ومن دون إفراط ولا تفريط.. ولكن إذا تجاوزت هذه الممارسات حالاعتدال والعقلانية، وتحولت - كيميائيًّا - إلى حالة من الإدمان الرقمي، تصبح ذات آثار خطيرة على السلوك وثقافة الأطفال والمراهقين؛ فقد كشفت إحدى الدراسات المتخصصة أن الإدمان على بعض الألعاب والأجهزة الإلكترونية، ومشاهدة العنف عبر شاشة التلفاز، يعلِّم الأطفال والمراهقين أساليب ارتكاب الجريمة والعنف والعدوانية والكراهية والانتقام، كما أن للحالة الإدمانية الرقمية آثارًا اجتماعية، قد تصل إلى إصابة الطفل بالعزلة الوحدانية والاغتراب الاجتماعي، وتتزايد لديه مساحة الانفصال عن الواقع؛ وبالتالي يصبح خجولاً، لا يجيد الكلام والتعبير عن نفسه، ويعاني خللاً وظيفيًّا في علاقاته الاجتماعية والتفاعل في محيطه البيئي.
هذا فضلاً عن الآثار النفسية والصحية والتربوية التي كشفتها بعض الدراسات العلمية والأبحاث المتخصصة.
وفي دراسة أمريكية، أظهرت معطياتها البحثية، أن ألعاب البلايستيشن يمكن أن تؤثر في الطفل؛ فيصبح عنيفًا ومتطرفًا في فكره. وقد أشارت الدراسة إلى أن كثيرًا من ألعاب (القاتل الأول) الموجودة في بعض الألعاب الإلكترونية تزيد رصيد اللاعب في النقاط كلما تزايد عدد قتلاه؛ وبالتالي من الممكن أن يكتسب الطفل سلوكيات إجرامية معادية وأفكارًا هدامة.. ولا نستغرب أن يصبح القتل عنده أمرًا مقبولاً وممتعًا..!
ولذلك أصبحت الجماعات الإرهابية والمنظمات المتطرفة تستعين بعدد من الوسائل الخفية التي تمكِّنها من التواصل والتجهيز لعملياتها الإرهابية بكل سهولة بعيدًا عن أعين الأجهزة الاستخباراتية المختلفة؛ فأجهزة الألعاب الإلكترونية التي تستغل في عملية غسل الأدمغة الشابة، والتأثير فيها بالأفكار الضلالية والآراء المنحرفة، لم تعد فقط لاصطياد العقول المراهقة، وإنما باتت أيضًا من الوسائل التي تساعد الإرهابيين على تجهيز عملياتهم الإجرامية وأعمالهم الضلالية، كما حصل في الهجوم الإرهابي الانتحاري في العاصمة الفرنسية (باريس) عام 2015م الذي تسبب في مقتل 127 شخصًا، وإصابة المئات؛ إذ كانت نقطة التحول في هذه الأعمال الإرهابية هي أجهزة الألعاب الإلكترونية التي استخدمها أصحاب الفكر المنحرف في تحقيق أهدافهم، والقيام بأعمالهم الانتحارية؛ ولذلك ينبغي رفع سقف (الوعي الأسري والرقمي) على نحو يعزز دور الرقابة على الأبناء، وعدم تركهم ساعات طوالاً أمام شاشة الأجهزة الترويحية الإلكترونية وألعاب الفيديو، وضرورة متابعتهم أثناء استخدامهم المواقع الإلكترونية واللعب داخل عالمها الافتراضي. كما أن للمؤسسات الدينية والإعلامية والتربوية والتعليمية والأمنية دورًا بنيويًّا وحراكًا تنويريًّا في تحقيق الأمن الفكري والأخلاقي، وتوعية المجتمع بخطورة استغلال هذه المواقع الإلكترونية والألعاب من أرباب الفكر المنحرف في التأثير في صغار السن، ومحاولة جرهم إلى مستنقعهم العفن وبيئتهم الفاسدة من جهة. ومن جهة أخرى تأثير هذه الأجهزة الرقمية وهوس استخدامها على الصحة النفسية والاجتماعية والبدنية والعاطفية للأطفال والمراهقين على وجه التحديد.