د. حمزة السالم
السوق خلق من خلق الله يسير وفق سننه الكونية. والبشر من مكونات السوق. فالبيع هو العرض والشراء هو الطلب، فطرة فُطر عليها البشر. فلو كان الشراء هو البيع عند قوم دون قوم، لاختلطت الأمور على الناس، باختلاط دلالات الألسنة، ولما نفعت الترجمة في تواصل الألسن البشرية.
ولغة القرآن وألفاظه دقيقة جدا وتحمل إعجازا، يراه المتأمل، إذا طوع نفسه حقيقة، للالتزام بنصوص الوحي من كتاب وسنة في تعبده لله، وحكم نفسه من موافقة شيوخه أو مذهبه.
وفي قوله تعالى عن أخباره عن بيع إخوة يوسف ليوسف «وشروه بدراهم معدودة»، درجت المعاجم العربية على القول بأن البيع هو الشراء لغويا عند العرب، ويستشهدون بهذه الآية.
كما أن هناك وجها آخر لتخريج المقصود بمن شرى، على أنه عزيز مصر، بشاهد السياق في الآية التي بعدها {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ}.
فأقول: إن كان عزيز مصر هو المقصود في «شروه»، فهذا من البلاغة. فالقرآن يذكر اللفظ الذي يزيد في المعرفة، ويختزل الرواية. فليس من البلاغة، قوله وباعوه، فهذه صياغة تُنهي حكاية البيع، فسنحتاح لعبارة أو عبارات لابتداء نبتدي به حكاية الشراء. وهذا كله، يستلزم إطالة مملة مفهومة بالضرورة. فالبلاغة والإبداع في إدخال عملية بيع يوسف في عملية شرائه، في كلمة واحدة.
والذي أعتقده، والله أعلم، أن المقصود هم السيارة الذين استرقوه ثم باعوه ظلما. وأعتقد كذلك بأن البيع ليس هو الشراء في لغة العرب، ولا في اللسان البشري. فاللسان البشري مفطور فطرة على فهم المعاني بقواعد عامة. فالشراء بأي لغة كانت هو الطلب والبيع هو العرض.
ولهذا، ما نُقل لنا من صحيح السنة، وأشعار العرب هذا التبديل في المعنى بين البيع والشراء، إنما نُقل إلينا لفظ ابتاع ويبتاع، فهي التي تعني الشراء، وفي الحديث: «لمَنِ ابْتَاعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ».
فإن كان لفظ «شروه» يعود على السيارة لا على عزيز مصر، فلعل القصد والله أعلم أن يوسف عليه السلام، كان ذا قيمة سلبية عند السيارة الذين استرقوه بعد إخراجه من البئر. فجريمة استرقاق يوسف عليه السلام، كان خطرا يهددهم. فهم وإن كانوا قد حصلوا على قيمة إيجابية مقابلة، لكنهم في الواقع، هم قد شروا الخلاص منه، ولذا كان ثمنه زهيدا، فهي ناتج قيمة يوسف مطروح منها قيمة التخلص منه.
وفي السوق الصناعية، يقال باع المخلفات، للمتورط بمخلفات مصنعه. وإنما هو يريد التخلص منها، وشراء خلاصه منها، لذا تُعتبر شركات التخلص من الُمخلفات، شركات الخدمة. فلا يُقال باع المخلفات واشترى الخدمة، إنما يقال باع المخلفات. فحسب عرف الناس ولسان البشر، أن البيع أخذ والشراء عطاء والقيمة الحسية مُقدمة في العقل على القيمة النفسية، عند تنزيل المعاني.
فالشيء تكون له قيمة طالما كان يُستحق الاحتفاظ به، أو يُستحق التخلص منه. فالقيمة إذا تكون مساوية لاستحقاق الشيء للحفظ أو التخلص منه. ويبني على هذا أن القيمة قد تكون إيجابية أو سلبية. فقد يمتلك الإنسان بخياره شيئا ذا قيمة سلبية، كنفايات مصنعه أو منزله. وقد يمتلك قيمة سلبية بغير خيار منه، كأن يرث دين والده. فامتلاك عبدٍ مجنون مؤذ، هو امتلاك مال ذا قيمة سلبية. لذا فالنفايات والديون تعتبر أموالا، لأنها ذات قيمة ومحازة وتُملك. وها هي تُتبادل بين الناس في الأسواق وفي غيرها. فهي معاملات تبادلية مالية تدخل تحت تعريف الربا اللغوي، ولها تطبيقات ومسائل كثيرة متعلقة بها، ليس هنا محلها.