«ألا يكفي أنّ نعاني كي يكون لنا الحق في التشاؤم» هكذا يصف نيتشه الإنسان ذا الإرادة القاسية، والذي يحافظ على عدم التألم في مواجهة المعاناة، و الذي يحافظ على كرامته، ومروءته، فلا كرامة للحيوان، ولا كرامة للأشياء، وإذا سقطت الكرامة يسقط معها كل ما تبقى.
يستعرض فيلم «الجوع – 1966» حدود الكرامة الإنسانية في مواجهة أصعب التحديات؛ في مواجهة الجوع، فيصبح الجوع مفتاحاً لفهم طبيعة النفس البشرية. ويمتلك الفيلم الشجاعة في أن يكون مزعجاً، فيضع المتفرج في مأزق وجودي صعب.
الفيلم مقتبس من رواية بنفس العنوان للنرويجي كنوت هامسون، ويحكي أنَّ كاتب صحفي موهوب «بونتوس» يطرد من غرفته الصغيرة الهادءة بين الجدران الأربعة، وهو لايمتلك النقود ويرفض أن يشحذ، أو أن يستدين، فهو ينتظر استلام بعض النقود عن ما يكتبه، فيعيش مشرداً في شوارع مدينة أوسلو، ليس يأويه إلا قلم الرصاص والورق، ومن جهة تصبح مدينة أوسلو الأساس الذي يُستند عليه باعتبارها خلفية لأحداث الفيلم، وفي نفس الوقت المدينة جزء من السياق التاريخي للبشرية، فتعاني نفس أوجاع الحياة الاجتماعية المعاصرة، وبذلك يتجاوز الفيلم ببراعة عقدتي الزمان والمكان، ويخاطب جمهور شاسع غير محدود، فأصبح عالم الأحداث يمتد إلى لا نهاية، و سهل الدخول إليه.
نشاهد الجوع كعزاء يلهينا عن رعب الزمن المعاصر، فنشاهد في أوسلو ملامح الحياة الاجتماعية العامة مثل الفردانية، والطبقية الاجتماعية، والرغبات المادية، والأنانية المطلقة، لدرجة لم يعد أحد يستطيع أنّ يشعر بقلق الاهتمام حيال الآخرين من حوله، وفي حين يتعرف أفراد الطبقات العليا على بعضهم البعض بفضل مظهرهم الخارجي. وبالمقابل يحافظ البطل على إرادته القاسية، وهو يتحدى الجوع.
وفي لقطة يقوم أطفال بتعذيب رجل مسن لأجل المتعة وبعدما يشجب البطل سلوك الأطفال، يقوم والد الأطفال بتوبيخه على تدخله في شأن لا يخصه. ومن المفارقات الذكية رغم إن الجوع قاتل إلا أن البطل يحافظ على مظهره الخارجي بشكل جيد، وبأدب يقوم بتحية الغرباء عبر رفع القبعة، فمظهره الخارجي يعطي انطباعات متناقضة حوله، و رغم قسوة معاناة الجوع إلا انه اختار الكرامة والعزلة للإشباع.
يصف البطل بدقة وعمق كل ما حوله، وكأن الجوع أظهر المعاني نقية وجلية كما هي، فمن الناحية الدلالية نبحر في التفاصيل لدرجة قاسية، و وحشية ، فوق مستوى احتمال الطاقة البشرية، ومع شدة المعاناة يعبر البطل عن ذاته بالصراخ والهيجان فيتحول في بعض اللحظات لقاضي يحكم بعنف لفظي على انحطاط البشر، فيصرخ: «كل شيء ضائع..!! أيها السيدات والسادة..!! كل شيء ضائع..!!».
يجسد الجوع كل ما تبقى من القيم الفاضلة، فالغنى غنى النفس ولكن يجب أن نتذكر جيداً إن الجوع كافراً، لأنه يستطيع أنّ يمزق كل ما تبقى من الضمير الحي بكبرياء، وبقسوة ، وبصورة غير مصطنعة، فيخاطب البطل نفسه ، ويقول :» دع السخافات جانباً، تقول الضمير؟! أنت أفقر من أن يكون لديك ضمير، أنت جائع، هذا أنت». ورغم ذلك السؤال الذي يتطلب جوابه مشاهدة الفيلم؛ هل انتصر بونتوس على الجوع؟
** **
- حسن الحجيلي