د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
في إحدى محاضرات النقد القديم لطلاب الدراسات العليا كان الحديث عن السرقات الأدبية، وكيف أنَّ مفهوم هذه القضية ضاق حتى حصره النقاد غالباً في المعاني الجزئية والصور الفنية التي يحملها البيت الواحد، وأنَّ هذه القضية يمكن معالجتها على مستوى الأفكار العامة، بل الفنون الأدبية بشكل كامل، ومثَّلتُ لهم بإفادة عمر بن أبي ربيعة من امرئ القيس الذي يُعدُّ مبتكر الشعر الغزلي القصصي الذي احتذاه فيه عمر، فأبدع وأتى بالجديد الممتع.
هنا تداعتْ إلى ذهني حياة هذا الشاعر الأموي المتميز، الذي أشعر بأنه ظُلم كثيراً في تاريخنا الأدبي والنقدي؛ إذ لم يبرز اسمه كما برز غيره من شعراء عصره كجرير والفرزدق. ولعل الظروف السياسية إضافة إلى مضامين نصوصه كانت سبباً في تراجع حضوره في تراثنا الأدبي ودراساتنا المعاصرة؛ مما أدى إلى تواضع معرفة جيلنا بهذا الشاعر العبقري الذي كان عاشقاً للجمال أينما حل وارتحل.
وفي سلسلة أعلام الفكر العربي يتحفنا يحيى الشامي بكتاب لطيف قصير عن عمر، يروي فيه طرفاً من حياته ومغامراته، فيذكر أنه أحد كبار شعراء الغزل، أو زعيم الغزليين إطلاقاً على مر العصور والسنين وفق تعبير طه حسين. ولد في المدينة عام 23هـ في اليوم الذي قُتل فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكناه أبوه بأبي الخطاب، وكان مضرب المثل في الجمال، بهي الطلعة فصيح اللسان، كما كان مترفاً منعماً؛ مما جعله ينصرف عن التفكير في السياسة، ويعكف على حياة اللهو والبذخ، فتعلم الغناء على يد الغريض، أشهر المغنين في ذلك العصر، فشهد حفلات الغناء المقامة في المدينة التي قضى فيها أجمل أيامه.
يتحدث المؤلف عن عمر الشاعر العاشق، شاعر المرأة بلا منازع، فهو الذي أدركتْ قريشٌ خطر شعره على النساء فقال قائلهم: «لا ترووا نساءكم شعر عمر، لا يتورطن في الحرام تورطا»، وهو الذي حين سمعه الفرزدق يقول:
فقُمْنَ لكي يُخليننا فترقرقتْ
مدامعُ عينيها فظلَّتْ تدفَّقُ
قال فيه: «أغزل الناس، لا تُحسِن - والله - الشعراء أن يقولوا مثل هذا النسيب، ولا أن يرقوا مثل هذه الرقية». وقد عُرف عن عمر تعرضه للنساء، فقد أولع بجمال المرأة وافتتن به، فعبر عن حبه لها ووصفها، وتغزل بها وبذل حياته وشعره لها. تعرض لهن في الطريق إلى الحج وفي الطواف وفي السعي وغيرها من المشاعر المقدسة!
تنوَّعت النساء اللاتي تغزل بهن عمر وشبَّب، ما بين شريفات وغير ذلك، فمنهن فاطمة بنت عبدالملك بن مروان، وعائشة بنت طلحة، والثريا بنت علي بن عبدالله التي عدَّها بعضهم أولى حبيباته، والقتول أخت الرباب، وزينب الجمحية، وهند بنت الحارث، وكلثم المخزومية، وهناك تكتم، وعبدة وسلامة، وسبيعة العراقية، وأسماء، وعفراء، وعمرة الأوسية، وليلى، وسكنى، وأم عمرو، وأم البنين، وغيرهن. وفي الكتاب نماذج كثيرة ومتنوعة من غزله بكل واحدة منهن.
ويقف الشامي عند شاعرية عمر، فيستحضر ما رواه الأصفهاني من أنَّ العرب كانت تقرُّ لقريش بالتقدُّم في كلِّ شيء إلا في الشعر، حتى جاء عمر، فأقرَّتْ لها الشعراء بالشعر أيضاً ولم تنازعها شيئًا. كما يُروى أنه حين كان صغيراً أنشد ابنَ عباس - رضي الله عنه - شيئاً من شعره فقال: «لئن بقي هذا ليخرجنَّ المخبآت من خدورهن»، وأشاد بشعره يونس بن حبيب وعبدالله بن أبي عتيق والفرزدق الذي قال في شعره: «هذا والله الذي أرادت الشعراء أن تقوله فأخطأته وبكت على الطلول»، والزبير بن بكار الذي قال: «أدركتُ مشيخةً من قريش لا يزِنونَ بعمر بن أبي ربيعة شاعراً من أهل دهره في النسيب، ويستحسنون منه ما كانوا يستقبحونه من غيره».
ويشير الشامي إلى خصائص غزل عمر، فيذكر منها غلبة النزعة المادية التي لا تخلو من العاطفة الصادقة والوجدانية، وبراعة الوصف، وسهولة الشعر، والتفنن في لغة الحب والعشق، وحديثه عن نفسه وتغزله بجماله على لسان حبيباته، والاعتداد بشجاعته ومغامراته، إضافةً إلى إبداعه في الغزل القصصي الذي أشرتُ إليه آنفاً، حيث الشخصيات والحوار والأحداث المشوقة.
أما عن وفاته فتجمع المصادر على أنه ودَّع الدنيا عام 93هـ، وأنه تاب من شعره الصاخب والماجن، ويروى أنه لما كوشف بالأمر وكان مشرفاً على أبي قبيس بمكة باح بمكنون صدره فقال: «وربِّ هذه البَنِيَّة، ما قلتُ لامرأةٍ قطُّ شيئاً لم تقله لي، وما كشفتُ ثوباً عن حرام قط»، رغم أنَّ هناك رواية أخرى تناقض هذا الاعتراف، حيث يُروى أنَّ سمرة الدوماني قبض على يد عمر وهو يطوف بالبيت، وقد شاخ وترهَّل جسمه، فقال له: يا ابن أبي ربيعة، أكُلّ ما قلتَه في شعرك فعلته؟ فقال عمر: إليك عني! قال سمرة: أسألك بالله! قال عمر: نعم، وأستغفر الله!
وأياً كان الأمر فإنَّ هذا الشاعر الاستثنائي قد خلَّف وراءه تراثاً أدبياً متميزاً لا تزال الأجيال تردده من بعده، وكان بحق من أوائل المجددين في هذا الغرض الشعري المرهف، فقد أضاف إليه بغرامه ونرجسيته وقصصه ومغامراته ما يستحق أن تقف عنده الدراسات الأدبية والنقدية أكثر مما وقفت؛ لتكشف عن عبقريته المجددة في إبداعه الغزلي، وتستكنه ما تحمله نصوصه الغرامية من قيمة دلالية وجمالية.