قاسم حول
قبل حوالي أربع سنوات نشرنا في المجلة الثقافية لصحيفة الجزيرة، موضوعاً مهماً عن رسالة مطولة أرسلتها المخرجة الأمريكية «سابين كرينبل» والمنتج «زيفا أولبام» إلى وزارة الثقافة العراقية وهي بصدد إنتاج فيلم عن شخصية «مسز بيل» التي عرفت بهذا الاسم، وهي «جيرترود بيل» 1868 – 1926 غادرت الحدود الإنكليزية باحثة عن الاستقلال، وتعلّقت بالعالم القديم وقبائل الصحراء لتكتشف آثارها القديمة، وأصبحت تتكلم العربية بطلاقة وكونت علاقات قوية مع قادة العديد من القبائل مما أدى ذلك لتفهم أكثر عمقاً للعلاقات الداخلية الصعبة واحترام متبادل لسكان المنطقة. انتقلت مسز بيل إلى بغداد كضابط عسكري، وأصبحت إحدى النساء ذات النفوذ في الإمبراطورية البريطانية، وساعدت في رسم حدود العراق وتنصيب أول حاكم ملكي للعراق، وتأسيس متحف بغداد للإنتيك وأصبحت مديراً فخرياً لذلك المتحف. وبعد انحسار السلطة السياسية عادت لهوايتها الأولى «الآثار» وكتبت قانون المتحف العراقي لعام 1925 التي وضعت الخطوط الأولى لتوزيع التحف بين مؤسسات التنقيب الأجنبية والعراق وحصلت على بناية في بغداد لإيواء آلاف التحف العراقية. وكانت مسز بيل مشغولة بأهم المواقع الأثرية في المنطقة وأهمها منطقة «بابل، أور، آشور، سامراء» مؤكدة أن الآثار والقطع الأثرية هي إرث ثمين للعراق والعالم.. هذه هي السيرة الذاتية لمسز بيل «جيرترود بيل» التي قررت المخرجة الأمريكية «سابين كرينبل» مع المنتج «زيفا أولبام» تحقيق فيلم روائي عن هذه الشخصية التي لعبت دوراً في تاريخ العراق والمنطقة. هذا الفيلم يحمل عنوان «رسائل من بغداد» .. كان هذا الفيلم حلماً راود المخرجة والمنتج. وحتى يتحقق في جانبه التاريخي والتوثيقي، فلقد كتبت المخرجة والمنتج رسالة إلى وزارة الثقافة العراقية يطلبان فيها التعاون لإنتاج الفيلم وذلك بإتاحة الفرصة لهما للبحث عن الوثائق المصورة عن مسز بيل.
كانت السينما العراقية قد وصلت متأخرة كإنتاج عراقي، ولكن وكالات الأنباء السينمائية وفي المقدمة منها «فيز نيوز» كانت توثق الأحداث والشخصيات والعائلة المالكة والإنجازات التي تتعلق ببناء دولة العراق الحديث وتوثيق المدن والسدود والأنهار، وكانت مسز بيل كعلم واضح في سياسة المنطقة قد وثقتها وكالات الأنباء واحتفظت بجزء من وثائقها في العراق حتى تأسس قسم للسينما في شركة النفط العراقية كان يديره الكاتب الفلسطيني «جبرا إبراهيم جبرا» وقد أسس قسما للسينما وزوده بكافة المعدات السينمائية، فباشر بإنتاج المجلة السينمائية المرئية، وقام بتأسيس نواة الأرشيف العراقي والذاكرة العراقية.
لم يعرف المنتج الأمريكي ولا المخرجة الأمريكية ماذا حل بالأفلام السينمائية وهي بعشرات الملايين من الأمتار المصورة، فلقد هدت الحروب الكارثية الذاكرة العراقية وأحرقت الكثير من الأفلام وسرقت الكثير من الأفلام وبقيت الأشرطة السينمائية التي تشكل الذاكرة العراقية تحت الأنقاض لأكثر من ثمان سنوات. ربما يشعر المسؤولون العراقيون بالخجل «ربما» أن يذكروا في جواب لرسالة المخرجة والمنتج بحال الذاكرة العراقية والأفلام المصورة، لكنهم قرروا عدم الإجابة على تلك الرسالة التي حملت من ضمن من ضمن ما حملته، رغبة في التعاون، تدريب شباب عراقيين على الأرشفة وتقديم دورة دراسية مركزة لعدد من المهتمين بالذاكرة العراقية.
جاء في الرسالة:
«لموظفي الأرشيف العراقي العامل على حفظ أرشفة الفيلم الفرصة للاستفادة من الخبراء الأمريكان المتدربين في هذا المجال من خلال فريقنا ومنظمتنا المشاركة - مؤسسة السينما العالمية - التي تم أنشاؤها من قبل «مارتن سكورسيس» لغرض صيانة مواد الفيلم الأرشيفية في جميع أنحاء العالم وخاصة في البلدان التي تفتقد للخبرة الفنية لعمل ذلك، ذلك أن مؤسسة العالمية متحمسة جدا لهذا العمل الجماعي والفرصة التدريبية. وعلى هذا الأساس باستطاعتنا تقديم سلسلة من الورش أما في بغداد أو في إسبانيا أو في الولايات المتحدة لتدريب موظفي الأرشفة العراقية»
لزمت حكومة بغداد ووزارة ثقافتها الصمت ولم يردوا على الرسالة، ما حدا بالمنتجين والمخرجة إلى المباشرة بعمل الفيلم دون الاستعانة بالذاكرة العراقية. وبعد هذه السنوات من البحث والإنتاج، تم أنجاز الفيلم الذي يحمل عنوان «رسائل من بغداد» وقد تم عرضه في بغداد في الخامس من شهر أبريل 2018، غباء مؤسسات الثقافية تسهم في الكوارث الحضارية.
ما كان حلماً أصبح فيلماً..