د.عبدالله الغذامي
في أسطورة هيرمس أنه سرق قطيعا من الأبقار مباشرة بعد ميلاده ، وحين وجهوا له تهمة السرقة تحجج بأنه طفل غض فكيف يسرق ، ومن هنا جعله اليونانيون إلاها للبلاغة والتجارة ، بإشارة إلى أن هذين المجالين هما مجال للكذب ، فالفنون كلها تقوم على بلاغة الكذب والتخييل وأعذب الشعر أكذبه ، كما هو القول العربي ، أما السرقة فنتذكر مقولة الأخطل : نحن الشعراء أسرق من الصاغة ، ومثله برايخت الذي قال : وشكسبير أيضا كان سارقا ، وكأنه يكرر مقولة الأخطل ، وهو ما كان يسميه الجرجاني بالاحتذاء ، متجنبا إطلاق الحكم بالسرقة ، والأمر لن يقتصر على فني التجارة والبلاغة فحسب فالكذب يتصل أيضا بالخطابين السياسي والإعلامي ، وفيهما يشيع التحايل اللفظي واللعب اللغوي حتى لتبدو فكرة الصدق عندهما وكأنها من المستبعدات ، ويشيع شعبيا القول : كلام جرايد ، قاصدين أنه مغبة التهويل وتزوير الأقاويل ، والذاكرة البشرية تختزن وعود السياسيين بوصفها ليست مشروعا للتحقيق ، وهذا أمر تعرفه شعوب أمريكا وأوروبا حول الوعود الانتخابية حتى لترى المحللين يجمعون على عدم أخذ وعود المرشحين مأخذ الجد ، وأنها كلها تطلق بقوة بلاغية خيالية تبيع الأحلام والورديات ، وحين يصل المرشح لسدة الحكم يتغير كل شيء ، وهنا سترى أن السياسة هي مزيج ثقافي من الخطاب الشعري / البلاغي ، ومن حركات التاجر المسوق لبضاعته ، ومعظم السياسيين يستأجرون كتبة يكتبون خطاباتهم ويخترعون لهم الشعارات الضاربة في بلاغياتها وفي دلالاتها ، مثلما يعتمدون على تمويل المؤسسات المالية الكبرى التي تدفع مبالغ مالية هائلة لو استخدمت في توفير الخدمات للناس لكفتهم الكثير من الشقاء ، ولكنها تستخدم لكسب الأصوات للحالمين بما هو أفضل وينتهون بتنصيب رجل ينسى حتى شعاره ، كما حدث لجملة ( نعم نستطيع / yeas we can ) تلك التي أطلقها أوباما في حملته ثم نسيها لمدة ثماني سنوات أمضاها في البيت الأبيض حيث لم ينجز سوى مزيد من الخطب الرنانة البليغة ، وهي خطب في فن البلاغة حتى لكأن كاتبها هو هيرمس اليوناني.