أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: ههنا نَقْلَةٌ سريعَةٌ إلى هذا الموضوعِ الحيويِّ لِشِدَّةِ الحاجَةِ إليه ؛ فلقد استأنف الملك عبدالعزيز جهادَه في جزيرةِ العرب خلالَ نِصْفِ قَرْنٍ من أجْلِ إمتاعِ الأُمَّةِ بِرَغَدِ تاريخٍ كان يُطَبِّقُ شَرْعَ الله بأقْصَى ما يُقْدَرُ عليه مِن تَحرِّي مذهبِ السَّلَفِ بعد عادياتِ الدهر على هذا التاريخ في مُديداتٍ مُتَقَطِّعَةٍ وجيزةٍ .. وكان عبدُ العزيز تلميذاً نجيباً مِن صِغَرِه لعددٍ من محترفي السياسة ؛ في كلِّ رُقعةٍ من الأرض ولا سِيَّما قادَتُها من أمثالِ(مبارك الصباح)، وكان عبدالعزيز على وَعْيٍ عميق بما يجري في بلاطِهم؛ فكان مِن أبْجَدياتِ عِلْمِهِ التاريخي الشرعي : الخبرُ الشـرعيُّ الصحيحُ القاطـع بأنَّ الخلافة ثلاثون؛ والمرادُ الخلافةُ الراشدة التي انتهتْ باستشهاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ووردَ الخبرُ الشرعيُّ الصحيح بأن بعد الخلافة الراشِدة أنْماطاً من الحكم منها: مُلْكُ جبريةٍ، ومُلْك رحمةٍ.. ومن أنواعِ الدُّوَل سواء أكانت مُلْكَ جبرية، أم ملك رحمة، أم على صورة جمهوريةٍ (؛وهي في الواقِع مُلْكٌ مهيمنٍ في مُدَّةٍ مُـحَدَّدَةٍ؛ قائِمٌ على أنقاضِ دولة مسلمة طمعاً في السُّلطة)؛ وهذا النمطُ لم يمرَّ في الحكم السعودي ألبتةَ؛ لأنَّ المؤسِّس الأول محمد بن سعود رحمه الله تعالى لم يُقِم دولتَه على أنقاض دولة إسلاميةٍ قائمة بأمرِ الله طمعاً في السلطة ؛ بل كانت البلادُ مجزَّأةً إلى إماراتٍ على مستوى الحاضرة، ومشيخات على مستوى البادية؛ بل كان أمير القرية حاكماً بأمره .. والعلماءُ والفقهاء موجودون في البلدان (؛بل يَتَميَّزُ بعضُ القرى بكثرة علمائها كما في مثل أشيقر؛ ولكن ليس هناك قضاءٌ شرعيٌّ ملزم، وإن وُجِد فسلطةُ التنفيذ لا توجد دائماً مبرَّأةً من الأهواء والعصبية؛ وإنما يُفتي العالِـم إذا سُئِل عنه، ثم يَنْكَفِئُ على لذَّاتِه العلميةِ: مؤلفاً، أو ناسخاً، أو مراسلاً غيره من العلماء، أو راحلاً إليهم، أو مدرساً.. وقد يرحل إليه بعض طلبة العلم من الآفاق ؛ومهمتهم الإمامةُ في المساجد، والقيامُ بخطب العيدين والاستسقاء؛ وبعد ذلك فأثرُهم في عمومِ المجتمع ضعيـف؛ لأنَّه لابـد للفتوى من دولـة تُنَظِّمها، ولابد للقضاء من دولة تُلْزِم به ؛ وقد يوجد في القرية أميرٌ متديِّن يُلزمُ بالقضاء، ولكنَّ هذا في النادر؛ بل الأغـلبُ صدورُ السلوكِ في غيابٍ عن القضاء والفتوى،و بعصيانِـهما.. يظهر ذلك في الحروب التافهة الْمُبيرة بين القُرى، وتديُّكِ الزعماء على أهل القرى بفرض الجبايات والْـحَمالات؛ وأما البادية فهي أبعدُ ما تَكونُ عن سلطة القضاء، والاستضاءةِ بالفتوى ؛ ولهذا قال: (كوراشيه) في كتابه الذي سماه: (تاريخُ الوهابيين منذ النشأة حتى عام 1809ميلادياً ) المطبوعُ في عام 1981ميلادياً بالفرنسية: إنَّ هذه الحروبَ التي لا طائلَ من ورائِها كانت هي العامِلَ الأساس في قيام الدولة السعودية الأولى).. انظر الترجمةَ العربية التي أنجزها محمد خير البقاعي (مخطوطة) .. وكانت تنميةُ الإنسان والْـمَوارد معدومة، وكانت الحاجةُ ماسَّةً إلى الدولة بأيِّ شكل من الأشكال؛ للإبقاء على النفوس والدماء المهْدَرة في الثارات والسلب والنهب؛ ولتوحيد الفروسياتِ والقُدُرات البشرية لهمٍّ جماعيٍّ واحد، ولإزالة آثارِ ذلك من الخوف والجهل والمرض وضياع الحقوق بقدر ما تسمح به إمكانات العصر والْـمَظالم ؛ فجاءت دولة آل سعود لكلِّ الهموم الدينية والدنيوية.. جاءت مُلْكَ رحمةٍ لكلِّ همومِ الدنيا والآخرة، ولتحكيم شرع الله في خلق الله؛ وتميَّزتْ بين الـمَمَالك الإسلامية بِحْمْلِ لواء السلفية التي تعني عقيدةً وعلناً الكينونةَ على مثل ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؛ فلم تتدين لله بالآراء، والأهواء، وأكاذيبِ الأخبار، والمنامات، والحكايات، وأقوالِ مَن لا تقوم الحجة بقوله، وتأويلِ نصوص الوحي بعد إعلان وجوب الإيمان به وطاعته بتأويلات لا تدل عليها لغة العرب (مفردةً، وصيغة، ورابطة، ونحواً، وسياقاً) ؛ وذلك مِن غير مانعٍ من الظاهر، ومن غيرِ مقتضٍ تأْوِيْلِ معيَّنٍ صحيح؛ بل سلكت ضرورةَ الدين والعقل؛ فتلقَّتْ الشرعَ بقوانينِ لغة العرب؛ لأن الأمة عربية، والرسول صلى الله عليه وسلم عربيٌّ مِن أشرف العربِ نسباً، والشرع بلغة العرب، ولا واسطةَ بيننا وبين الله لفهمِ مرادِه غيرُ كتابِه الذي جاء بلغة العرب، وبيانِ رسوله صلى الله عليه وسلم الذي جاء بلغة العرب؛ فكان فهمُ الأُمَّةِ دِينَ ربِّـها وَفْقَ منطوقِ لغة العرب الصريح القطعي الذي لا يقبل تأويلاً، وَوَفْقَ ما تقتضيه لغة العرب في النصوص القابلةِ التأويلَ شريطةَ أنْ يكونَ التأويلُ صحيحاً ؛ فيكونَ تفسيرُها قطعياً أو رجحانياً أو توقُّفِيّْاً ؛ لتكافُؤِ الاحتمالاتِ؛ وهذا الضربُ الأخيرُ القابلُ التأويلَ: هو الذي يتمايز فيه العلماء، ويرفالله به درجاتِ بعضهم على بعض؛ وهو الذي يكونُ للمصِيب فيه أجران، وللمخطئ أجر واحد وعذْرٌ إذا كان الاجتهادُ نزيهاً صادقاً في تحرِّي مراد الله.. والقرآن قطعيُّ الثبوت، وسنةُ الرسول صلى الله عليه وسلم فيها الثابت، وفيها المنسوبُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم خطأ أو كذباً ؛ فلم يسعْهم إلَّا تسليطُ قواعدِ التوثيق التاريخي؛ لمَعرفةِ الثابت من غير الثابت ؛ لأنهم مطلوبٌ منهم بالنص القرآني القطعي دلالةً وثبوتاً طاعةُ الرسول صلى الله عليه وسلم، والـردِّ إليه ؛ ولأنَّ هذا النصَّ الكريمَ أخبرهم أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم مُبيِّنٌ شَرْعَ ربه، ولأنهم وجدوا في القرآن أوامر ونواهيَ لم يُعْرَفْ حُكْمُها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم كهيئات الصلاة وأقوالها وأفعالها ؛ فعلموا ضرورةً أنه لابد من نصٍّ صحيح حاضِر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجعون إليه في البيان، ويردُّون إليه عند التنازع .. ولقد صَرَف الـلَّهُ بقدرِه الكوني جُهْدَ علماء الأمة وعدولِـها إلى معرفةِ حقائق الرواة، وتحرِّي الْـعِلْمَ، والوعيِ بملابسات روايتهم؛ وجعل الله ذلك ألذَّ وأحلى وأجلَّ في عقولهم ومشاعرهم وسلوكهم من التفاخر بالبنيان، والتنافسِ في جمع الكنوز، والانهماكِ في لذائذ العلوم البشرية الأخرى التي لا يترتب عليها منفعةٌ شرعية .. وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.