د. حسن بن فهد الهويمل
أن تتوقع المصيبة، وتهيء نفسك لها، فإن وقعها يكون أخف. وذلك حين يُطاوِل المرضُ العضال عزيزاً لديك، ثم تتجرع معه مرارات القدر بالتدريج.
وحين لايكون بدٌ من الرحيل، تستقبله بنفس راضية، صابرة، محتسبة، ولربما يكون الموت فرجاً وراحة:-
(كَفَى بِكَ دَاءً أَنْ تَرىَ المَوْتَ شَافِياً … وحَسْبُ المنَايَا أَنْ يَكُنَّ أَمَانِيَا)
نعم كم من مريض أمَضَّهُ المرض، وأعيا الأطباءَ وضعهُ المتدهور، وتمنى هو ومن حوله إحدى الحسنيين: الشفاء، أو الموت.
ولأنني ممن مر بهذا الموقف الحرج مع فلذة كبدي، فإنني أعي وصف الموقف الأصعب، لا أرى الله عزيزاً ما رأينا، وعظم الله أجر من لقي ما لقينا.
أبو عثمان الشيخ، والمربي، والمحسن، والمواطن (محمد بن عثمان البشر) فاجأنا بالرحيل، في عنفوان شيخوخته، وتمام صحته.
كان من عادته أن يستقْبل محبيه، ومريديه، وطلابه مساء كل (يوم اثنين)، وأن يفتح أبواب (مكتبته) بين الحين، والآخر، وأن يوزع جِسمه في مسؤوليات كثيرة.
وكعادته اسْتقبل مريديه، وحدثهم، وحدثوه، وارتبط مع البعض منهم بمواعيد متقاربة لخدمة الدين، والوطن.
وكنت ممن يشْرف بحضور بعض هذه الأماسي الثرية. بكل جميل. غير أني حُرمت من آخر جلسة جلسها، مساء الاثنين 39/7/23هـ.
لقد وَدَّعَ ضيوفه بكل حيوية، وأوى إلى فراشه، وبعد ساعات قام لصلاته، ولكنه تعرض لنوبة قلبيةٍ حادة، سبق أن مَسَّته برفق، ولم يتمكن أبناؤه، ولا الأطباء من صَدَّها، بحيث قضى نحبه قبل صلاة الفجر.
وفي عصر (الثلاثاء) صَلَّتْ عليه جموع غفيرة يتقدمهم سمو (أمير المنطقة) وكبار المسؤولين، والعلماء، والأعيان، وتحققت لجنازته مقولة:- (مَوْعِدَكُمُ يَوْمَ الجَنَائِزِ).
والله أكرم من خلقه، لقد عَبَّر الناس عن محبتهم، وثنائهم، ورضاهم، ودعائِهم الصادق.
وهذا يجعلنا نتطلع إلى قول الله:- وَجَبَتْ ، أي وجب للميت ما عَبَّر عنه الناس من حضور غَفير، وصلاة خاشعة، ودعاء صادق. فالناس شهود الله في أرضه، والله أكرم من خلقه. ورحمتُه وسِعَتْ كلَّ شَيْءٍ.
الراحل الكريم قضى حياته الحافلة بكل جليل، وجميل، والممتدة لأكثر من ثمانية عقود في خدمة دينه، ووطنه، وولاة الأمر. عاشها متعلماً، وعالماً، وقارئاً، وكاتباً، ومؤلفاً. وساعياً في حاجات وطنه، ومواطنيه.
مارس التعليم منذ نعومة أظفاره، بحيث استهله مدرساً بمحافظة (الزلفي) عام 1368هـ ثم تقلب في جميع مناصب التعليم. ولم يؤثر ذلك على حضوره الفاعل لخدمة وطنه.
ثم انخرط في السلك التجاري، فأفاض الله عليه مالاً صالحاً، لرجل صالح، أنفقه في وجوه الخير: مَساجِدَ، ومؤسسات، وصدقات ماتَغِبُّ، ونائلٌ، وإنفاق سخي في كافة المناسبات.
لقد تعددت مواهبه وتنوعت اهتماماته، وعاش حضوراً مُشَرِّفاً في كافة القطاعات. فكان شخصية موضوعية، وليست ذاتية، لقد منح نفسه لمسقط رأسه، فاستحق التأبين والتفجع.
دعم كافة الجمعيات الدينية، والخيرية، والاجتماعية، والصحية بالجهد، والمال. وسعي في حاجات الناس، وفتح بابه لذوي المطالب، كان غنياً ينفق بسخاء، ووجيها يبذل شفاعته ووساطته لكل مستشفع.
وكان قبل هذا وبعده مواطنا ينهض بحاجات وطنه، من خلال المؤسسات التي يعمل فيها، وبجهوده الشخصية، لا يحجم عن سفر، ولا يمسك عن إنفاق، ولا يتردد في مهمة.
يهاتف، ويراسل، ويسعى بين الإدارات والوزارات، وما مشينا في طريق وطني إلا وتراءى لنا من بعيد رائداً لايكذب أهله.
ذلكم هو الراحل الكريم (أبو عثمان) كان بمنزلة الأستاذ، والوالد، ولكنه يؤثر على نفسه، حتى لكأنه أصغرنا سناً، وأقلنا عطاءً، وأضعفنا علماً.
إنه مدرسة مكتملة الأهلية، تمشي معنا في حلنا، وترحالنا. لا يفتأ يعظ، ويذكر، ويستحث. وفي كل لقاء يفيض علينا من علمه، وتجاربه ما يثبت به أفئدتنا، ويستنهض به هممنا، ويؤلف به بين قلوبنا. يثني على أقل جهد، ويشجع أصغر عامل حتى لقد ننكر أنفسنا حين نسمع ثناءه، ونزهد بذواتنا حين نرى تواضعه.
لقد كان متعدد الاهتمامات، متنوع الرغبات، يسعى في عمارة المساجد منه، ومن غيره، ويتعهد جمعيات تحفيظ القرآن، ويدعم الجمعيات الخيرية حتى لكأنه يموت غداً.
ويسعى في حاجات مدينته من صحة، وتعليم، وحدائق، وطرق، ومؤسسات، وتوسُّعه في الخدمات، حتى لكأنه يعيش أبداً. لاتجد جمعية، أو هيئة، أو مؤسسة إلا هو فيها عاملاً، أو داعماً.
رحمك الله رحمة واسعة، وأسبغ على قبرك شآبيب الرحمة. وجزاك الله عمَّا قدّمت لدينك، ووطنك، وولاة أمرك، أحسن الجزاء. وخلف الله على كل ثغر أنت عليه من يسد مَسَدَّك فيه.
وطني سخي بالكفاءات، في كل مدينة، ومحافظة، وقرية رجال لا تلهيهم شهواتهم عن واجباتهم الدينية، والدنيوية، وكلما طل سيد قام سيد:-
(قَؤُوْلٌ لِمَا قَالَ الكِرَامُ فَعُولُ)
وقادة البلاد يعرفون لذوي الفضل فضلهم، فهم على المحجة يأسون، ويواسون، ويتوجعون. أدام الله لوطني العز، والتمكين، وتلاحم أبنائه، فالوطن المعطاء يستحق منا الفداء. {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}.