د.سالم الكتبي
جاءت نتائج القمة العربية التي عقدت مؤخراً في مدينة الظهران بالمملكة العربية السعودية إيجابية في تفاعلها مع القضايا والأولويات العربية، وربما تعد من القمم القلائل التي أدركت أولويات هذا الاجتماع الحيوي، ولم تنشغل بمهاترات الإعلام ولا «نثر» اهتمامات القادة على قائمة طويلة من القضايا من دون التركيز على أولويات بعينها.
بالتأكيد كان لكلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ومحادثاته ومشاوراته قبيل القمة الدور الأكبر في حشد الاهتمام العربي واصطفاف القادة وراء قضايا بعينها، حيث تميزت كلمة العاهل السعودي بأنها وضعت النقاط على الحروف في ملفات بعينها في مقدمتها موقف المملكة الشقيقة حيال القضية الفلسطينية، وفي القلب منها القدس الشريف، فقد جاءت الكلمة قاطعة وحادة ومحددة الأهداف والرسائل، بأن القضية الفلسطينية لم تزل هي قضية السعودية والعرب الأولى ولم ولن تتراجع عن تلك المرتبة ما لم تجد طريقها إلى تسوية سياسية عادلة ومنصفة لحق الفلسطينيين الشرعي في أرضهم وسيادتهم والقدس الشريف عاصمة لدولتهم، وقد لا يكون هناك برهان ساطع على أولوية الملف بالنسبة للسعودية من تسمية القمة بقمة القدس.
قمة القدس والاهتمام السعودي بمصير المدينة المقدسة كانا بمنزلة أبلغ رد على المزائدين والمشككين والمغرضين الذين اتخذوا من منصات الإعلام الاجتماعي طيلة الأشهر الماضية منصة للتشهير ومحاولة التشكيك في مواقف المملكة والترويج لمزاعم وسيناريوهات «مفبركة» حول اتصالات ولقاءات وصفقات جرى التوافق حولها.
الموقف السعودي في هذا الإطار كان واضحاً وبدت آثاره على البيان الختامي للقمة، حيث تعهد القادة العربي بالعمل على تقديم الدعم اللازم للقضية الفلسطينية، واعتقد أن ترتيب الأولويات السياسية العربية في القمة كان في غاية الذكاء لأنه سحب البساط من الفضائيات التي كانت تستعد لليلة طويلة من النواح والبكاء على القدس والمتاجرة بها والادعاء بغيابها عن دائرة الاهتمام العربي، فجاء الرد صاعقاً وأخرس الجميع، ناهيك هن كونه كان فعلاً سياسياً بامتياز لأن وضع القدس في مكانها الطبيعي يسهم جدياً في تفادي الخلافات العربية - العربية، ويصب في صلة تعزيز العمل العربي المشترك ويسحب البساط من القوى التوسعية الإقليمية التي تتخذ من القضية الفلسطينية مادة للمتاجرة والتغلغل للعقل الجمعي العربي، عبر استغلال العاطفة الدينية والروحية حيال القدس والادعاء الواهي بمساندتها والعمل على «تحريرها»!!
نجحت القيادة السعودية للقمة العربية في تحويل الملف الفلسطيني من مادة للتشرذم والخلاف إلى محور لقاء مشترك للعرب كما كان عليه الحال قبل انتشار فيروس الفوضى والاضطرابات في عالمنا العربي عام 2011، حين استغلت التنظيمات والجماعات المتاجرة بالدين حالة اللا دولة التي سادت في كثير من الدول العربية واتخذت من ملفات عدة، ومنها الملف الفلسطيني، سلعة للمتاجرة والتغطية على أهدافها المشبوهة وعمالتها للقوى المتآمرة على الدول والشعوب العربية.
لم يكن اعتباطاً ولا جزافاً أن توجه البنود السبعة الأولى في الإعلان الختامي للقمة إلى القضية الفلسطينية بمجمل تفاصيلها وتشابكاتها وارتباطاتها الإقليمية والدولية، وعلى المشككين في قراءة البند الأول للبيان الختامي جيداً، والذي ينص على «نؤكد مجدداً على مركزية قضية فلسطين بالنسبة للأمة العربية جمعاء، وعلى الهوية العربية للقدس الشرقية المحتلة، عاصمة دولة فلسطين»، فقد جاء هذا البند واضحاً ودقيقاً وتاريخياً بكل ما تعنيه الكلمة.
لم تلجأ القمة التي قادها سلمان الحزم إلى المراوغة أو الالتفاف اللغوي على المواقف السياسية، بل اتخذت من سمات قائدها صفات الحزم والمواجهة والشفافية والمكاشفة، فجاءت العبارات قوية واضحة وصريحة، ونجحت في إعادة قطار العمل العربي المشترك إلى مساره الذي يعتقد البعض أنه انحرف عنه، فكانت قمة التقاء حول المشتركات، واتفاق على لم الشمل العربي، فكان الاعتراف بـ»المنعطف الخطر» الذي تمر فيه أمتنا العربية، بوابة للتأكيد على أن يكون القادة «أكثر توحداً وتكاتفاً وعزماً على بناء غد أفضل يسهم في تحقق آمال وتطلعات شعوبنا من تدخل دول وأطراف خارجية في شؤون المنطقة وفرض أجندات غريبة تتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي وقانون حقوق الإنسان وتنشر الفوضى والجهل والاقصاء والتهميش» وكل كلمة في هذا البند تحتاج إلى فقرات لتحليلها وشرحها وتوضيح أبعادها ومراميها، والأهم من ذلك - بالنسبة لي كباحث على الأقل - أن القمة لم تقف عند حد تشخيص الواقع والعمل على علاجه بل اتجهت إلى بث روح إيجابية ينطلق منها العرب لبناء مستقبلهم، حيث جاءت ديباجة البيان متضمنة عبارة رائعة نصها» «ولإيماننا الراسخ بأن أبناء الأمة العربية الذين استلهموا تجارب الماضي وعايشوا الحاضر هم الأقدر والأجدر على استشراف المستقبل وبناءه بحزم مكين وعزم لا يلين».
جاء التعامل مع الخطر الإيراني عبر البيان الختامي عقلانياً رشيداً اعتمد السياسة سبيلاً للتخاطب مع إيران بعيداً عن المهاترات والمزايدات، حيث طالب «المجتمع الدولي بضرورة تشديد العقوبات على ايران وميليشياتها ومنعها من دعم الجماعات الارهابية ومن تزويد ميليشيات الحوثي الإرهابية بالصواريخ الباليستية التي يتم توجيهها من اليمن للمدن السعودية والامتثال للقرار الأممي رقم (2216) الذي يمنع توريد الأسلحة للحوثيين»، رافضاً التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، ومديناً لكل المحاولات العدوانية الرامية إلى زعزعة الأمن وبث النعرات الطائفية وتأجيج الصراعات المذهبية، وبلغت لغة العقلانية والرصانة الدبلوماسية واحترام القانون الدولي والمواثيق والأعراف الدولية منتهاها في الفقرة الخاصة بتأكيد «الحرص على بناء علاقات طبيعية تقوم على الاحترام المتبادل والتعاون الإيجابي مع دول الجوار العربي بما يكفل إرساء دعائم الأمن والسلام والاستقرار ودفع عجلة التنمية»، وهذه الفقرة تؤسس لموقف عربي يحترمه العالم، حتى وإن كان الطرف الآخر - وتحديداً إيران - لا يفهم لغة الخطاب السياسي الرصين، ويستخدم لغة استعلائية بائدة عفا عليها الزمن.
قمة الظهران، قمة القدس، قمة الحزم، ستبقى علامة بارزة في تاريخ العمل العربي المشترك، وستكون بداية تحول إيجابي نحو استعادة زمام المبادرة والفعل السياسي الإقليمي لمصلحة العرب.