د. محمد بن إبراهيم الملحم
قرأت خبرًا أن وزارة التعليم بالتعاون مع مركز وطني مرموق تنظم ورش عمل لأخذ آراء كل الأطراف ذات العلاقة (stakeholders) حول المناهج استعدادا لإخراج مناهج جديدة، وهذا توجه طيب محمود وأسلوب إداري حضاري يعكس درجة من الوعي والتفهم لمبدأ التشاركية في الرأي، ويستبشر القارئ بمثل هذا الخير لوجود بُعدين مهمين هنا، أولهما المناهج والآخر صناعة القرار بالتشاركية، فأما المناهج فما إن يسمع أحد أن مسؤولي التعليم غير راضين عنها ويرغبون التغيير فإنه يتوقع أن نقلة كبرى للتعليم ستحدث قريبا، والأسباب متباينة لدى كل متلق بحسب خلفياته وتصوراته ومواقفه عن المنهج فإن كانت أيديولوجية فهو يفسر التوجه الجديد بهذا الاتجاه وإن كانت بيداغوجية (أي في طرق التدريس) فهو يفسرها في هذا الاتجاه، وإن كانت منهجية (أي في المحتوى التربوي نوعا وكما) فهو يفسرها في هذا الاتجاه، وأنا من هذا الفريق لكني لا أبالغ كثيرا كما يذهب إليه كل من يعتقد أن التغيير في المناهج هو ضمان للإبداع التربوي ونقلة كبرى! فهو الحلقة الأضعف في مجموعة: المعلم - النظم - المناهج - البيئة والموارد، خاصة للدول التي لا توصف بتأخرها الشديد في إدراك متطلبات المناهج المعاصرة، ونحن من هذه الفئة حيث لدينا نضج كبير في المحتوى بل أراه أكثر كما من اللازم في كثير من المواد، وأعتقد أن ما يحتاجه طلابنا من تطوير هو تعديل خريطة المنهج وإصلاح بعض العلل هنا وهناك خاصة في مواد العلوم والرياضيات واللغة.
أما البعد الثاني، أي التشاركية في الرأي، فإن كثيرين يعولون عليه ليسهم في تنوير أصحاب القرار بأفكار ورؤى جديدة لطالما كان حضور هذه الورش يطمحون في إيصالها إلى أصحاب القرار، وهذه افتراضات جميلة ولها رصيد من الواقع، وأنا من المنادين به، بيد أني أتمنى على من ينظمون مثل هذه اللقاءات أو الورش أن يكون اهتمامهم منصبا على عقدها بعد إنتاج المناهج الجديدة لا قبلها... ذلك أن التشاور قبل إنتاج منتج ما هدفه هو الحصول على الأفكار والآراء والتوجهات والانتقادات وأخذها كلها كمدخلات لصناعة المنتج الجديد، والواقع أن هذه يمكن توفرها من مصادر أخرى غير اللقاءات سأذكرها بعد قليل، لكن يهمني أن أشير إلى أن ما يهم المشاركين ليس مجرد جمع هذه المعلومات منهم وإنما كيفية معالجتها وتوظيفها (وكيفية الإنتقاء منها كذلك) ولذا فإن المنتج الأخير هو انعكاس في النهاية لنظرة وتحليل الفريق الذي تعامل مع هذه المدخلات، ولاعجب إن تفاجأ كثير ممن دعي إلى هذه اللقاءات بعدم تحقق 70 % مما طرح! وهذا له شواهد سابقة وكثيرة جدا، لذلك فإن التحدي الأكبر لصانعي قرارات المناهج الجديدة هو في عرض مسودتها الأولية على هؤلاء ثم تأخذ بما ارتأوه في النسخة النهائية ليتطابق المنتج مع مرئيات الميدان فعلا، أما المعلومات القبلية والمقترحات والأفكار فأنصح الوزارة والعاملين في المناهج أن يحصلوا عليها من مصدرين مهمين لا من الورش واللقاءات: المصدر الأول هو «الغُـبارين» والثاني هو «المَطَرين»، تعبيرات غريبة لكنها ذات معنى كما سترون فالغبار الأول هو الغبار الذي علا الأبحاث الأكاديمية وغير الأكاديمية الكثيرة جدا والتي درست واقع مناهجنا بل وجمعت آراء المعلمين والطلاب والمشرفين وغيرهم ممن سيدعون إلى هذه اللقاءات التي نتكلم عنها هنا. أما الغبار الثاني فهو غبار التقارير والمبادرات والمقترحات التي تملكها وزارة التربية في ملفاتها وسجلاته وأرشيفاتها سواء الناتجه من لقاءات الوزارة أو اجتماعاتها أو لجانها التطويرية.
وأما المَطَرَان فهما مطر الطلاب ومطر المعلمين، فلدى هؤلاء آراء كثيرة ووفيرة بل وربما كانت خارج الصندوق، ولِمَ لا يلتقي بهم المصممون وهم المستفيد الأول من هذه المناهج وهم الطرف المتعامل معها يوميا! بينما المشرفون والمسئولون ربما كان آخر عهدهم بالتدريس قبل خمس أو عشر سنوات بل بعض الخبراء ممن يدعى إلى هذه اللقاءات يكون أحيانا من أعضاء هيئة التدريس بالجامعة أي لا علاقة له بالتعامل المباشر مع هذه المناهج مع كامل تقديرنا لخبرته الأكاديمية ونظرته العلمية، أنا شخصيا أعتقد أني يجب ألا أشارك في مثل هذه اللقاءات مع أني كنت معلما يوما ما لكني ابتعدت عن العملية التدريسية فلم تعد لدي معلومات كافية عن كيفية تفاعل جيل اليوم مع المنهج وما هي متطلباته ومشكلاته كما يدركها المعلم أو الطالب نفسه. مرة أخرى أيتها الوزارة العزيزة اجتمعوا مع القوم بعد إنتاج المسودة الأولى فمن هنا تورد الإبل.