ساد الوطنَ العربي أوائل القرن العشرين شعورٌ قومي، يطمح إلى لمّ شمل الدول العربية. وكانت تطلعات الأمة تتمثل في إنشاء الكيان الواحد الذي يسمح لها باختيار مكانها بين الأمم، ويتيح لها إعادة إطلاق طاقاتها الفكرية والحضارية بعد قرون من التخلف والتفكك والضياع.
وفي ضوء ما شهدته حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية من تغيرات جذرية في أسس وتوجهات النظام الدولي، جاءت فكرة إيجاد الأمم المتحدة كمنظمة عالمية، تسعى لتحقيق السلم والأمن الدوليَّين، وتكفل حق تقرير المصير والاستقلال والسيادة للشعوب، والامتناع عن التدخل في المسائل التي تتعلق باختصاص الشؤون الداخلية للدول.
وفي ظل هذه المبادئ تطلع العالم مجددًا إلى هذه المنظمة الفتية بدلاً من عصبة الأمم الفاشلة؛ لكي تلعب الدور المأمول في حفظ الأمن والسلام الدوليَّين.
لقد أدرك الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - بثاقب نظره أهمية هذه المنظمة الجديدة في تحقيق الاستقرار في مختلف بقاع العالم؛ فقام بدعم هذا الجهد الدولي الجماعي، وانضمت المملكة لهذه المنظمة انطلاقًا من قناعة المملكة وحرصها على الاستفادة من مبادئ منظمة الأمم المتحدة للدفاع عن الحقوق المشروعة للشعوب العربية، وتحريرها من قبضة الاستعمار والهيمنة الأجنبية.
في ظل هذا الواقع السياسي والاستعداد الذهني، جاءت فكرة إنشاء جامعة الدول العربية كإطار جماعي عربي، يعمل على استقلال وسيادة الدول الأعضاء، ويدعم أمنها، ويؤكد أهمية تعزيز العمل العربي المشترك سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وعلى الأصعدة كافة.
وانسجاماً مع هذه التوجهات، تبلورت فكرة إقامة مجلس التعاون لدول الخليج العربية انطلاقًا من الوشائج الأخوية، وبما يلبي آمال وطموح الشعوب الخليجية إلى واقع ملموس من التكامل بغية الوصول إلى وحدتها.
إن مجلس التعاون كان -ولا يزال- أنجح صيغ المحاولات الاتحادية التي شهدتها الساحة العربية، وأثبت أنه مؤسسة تعاونية، استطاعت أن تثبت وجودها بمرور الزمن رغم المآسي التي أصابت دوله من الداخل والخارج.
وفي خضم هذه الوقائع أخذت الدول العربية تواجه متغيرات صعبة نتيجة للأوضاع الدولية والإقليمية التي فرضت نفسها على الدول العربية، وعانت الشعوب العربية في أقطارها كافة من العديد من المآسي التي أثرت على سلامتها وأمنها ورفاهيتها. ولعل في طليعة هذه المآسي الاحتلال الصهيوني لفلسطين. لقد أدى ضعف النظام العربي، وتراجع العمل العربي المشترك، إلى مزيد من النكسات، مثل هزيمة 1967، وحرب أكتوبر 1973 التي كان للمملكة فيها موقف مشرف عندما أوقفت إمدادات النفط، والحرب العراقية الإيرانية، وغزو النظام العراقي لدولة الكويت، وصولاً إلى ما يسمى بالربيع العربي الذي عصف ببعض الدول العربية كسوريا ومصر والعراق وتونس وليبيا، وأصاب النظام العربي الإقليمي في الصميم.
لقد استمرت المآسي بسعي إيران إلى تعزيز نفوذها الإقليمي في الدول العربية من خلال التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية للدول العربية، ودعم الحركات الانفصالية والإرهابية التي تحاول تقويض الأمن والاستقرار في الوطن العربي، وكان آخرها حركة الانفصاليين في اليمن بقيادة الحوثيين ضد الحكومة الشرعية في اليمن الشقيق. لقد حاولت إيران استغلال الاتفاق النووي مع الدول الغربية لبسط نفوذها وهيمنتها، والعبث بالأمن العربي الإقليمي، وهو ما لم تسمح به السعودية؛ إذ قادت تحالفاً عربياً تحت اسم «عاصفة الحزم» للوقوف أمام هذه القوى الإقليمية، وخصوصاً إيران التي لا تريد الخير لليمن، ولا للمملكة، ولا للعرب.
ولعل محاولات دولة قطر، وما تتخذه من تصرفات تمس سلامة الدولة، وتقوض أمنها، سواء من خلال إيواء المعارضين، أو دعم المجموعات الإرهابية، يتناقض مع التزاماتها كدولة عضو في جامعة الدول العربية ومجلس التعاون، وهو الأمر الذي تسبب في الأزمة القائمة حالياً.
إنَّ هذه التصرفات غير المسؤولة تثير الكثير من التساؤلات في ذهن كل مواطن عربي أو خليجي مخلص لوطنه وأمته عن البواعث والأسباب التي تدفع دولة عضواً إلى أن تقوم بمثل مثل هذه الممارسات التي تقوض أمن دول المنطقة.
ولا شك أيضاً أن ما يحز في النفس أن تسمح دولة شقيقة لقوى إقليمية أجنبية، عُرفت بعدائها للعروبة والعرب عبر العصور، بالعبث بأمن أشقائها. ولعله من نافلة القول إن الدول التي اتخذت قرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة قطر اتخذته مضطرة، وبعد استنفاد مختلف السبل والوسائل معها. إن استمرار قطر في لعب مثل هذه الأدوار المزدوجة أمر لا يخدم دولة قطر أو شعبها في المقام الأول، كما تتحمل قطر وحدها مسؤولية ما أصاب العمل الخليجي والعربي المشترك من آلام ومصائب، مسّت النظام العربي الإقليمي برمته.
إن ما قامت به المملكة والدول العربية الأخرى يصبّ في معين حقها الشرعي في حماية شعوبها من أية انتهاكات لا تهدد أمنها وسلامة دولها ورفاهيته شعوبها فحسب، بل تعمل على تقويض النظام العربي الإقليمي؛ وهو الأمر الذي لا يمكن تجاهله من قبل دول عربية مؤثرة كالمملكة.
** **
- السفير الدكتور عبدالرحمن بن محمد الجديع