د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
«سفينة ثيسيوس» رمزٌ أو مثال يضعه الفلاسفة أنموذجًا للتفكير بقضية تغير الهُوية وفق تقادم الزمن وتبعًا لاختلاف العمر والفكر والتجربة بين مرحلتين كالسفينة التي تمرُّ عليها الأعوام فيضطر أصحابها إلى عمل تبديلاتٍ في هيكلها ومحركها؛ أفتبقى هي هي؟ ما الظنُّ أنْ نعم؛ فعوادي الزمن ستنتج سفينةً أخرى وإن حملت الاسم نفسه والوسمَ شبيهَه.
** البشر غيرُ الحجر، ومن يعتقد أنه لا يتغير ذهنيًا كمن يتوهم أن خطوط العمر لم تبيِّضْ مسودَّه وتُملْ معتدِلَه وتُثاقلْ خطوَه، والسفينة التي احتفظ بها «الأثينيون» تخليدًا لزعيمهم مؤسس مدينتهم حين عاد من «كريت» منتصرًا صارت - على مدى قرون - رمزًا يبحرون بها كل عام بعد أن يستبدلوا بما اهترأ منها قِطعًا تشبه بناءَها الأصلي، وحين نفدت وضعوا قطعًا مشابهة؛ فلم تعد المُجدَّدة هي الأصلية، وجاء استفهام الفيلسوف «بلوتارخس» الذي عاش في القرن الأول الميلادي وتوفي عام 120م عن الهُويّة، ولا يزال السؤال يتكرر: من أنا؟ أنا الآن؟ الليلة؟ غدًا؟ قبل عشر سنين؟ بعد عشرين عامًا؟ ومن يمثلني؟ اللحظة الأخيرة أم السابقة أم مجمل الزمنِ؛ سالفِه وحاضرِه وآتيه؟
** يبقى استفهام الهُوية مُشغلًا، وما يثبت من هوياتنا عبر الأمكنة والأزمنة هو ما يخلقه الوعيُ والمعرفة والذاكرة كما رأى « جون لوك 1632 -1704 م»، وهو مبحث شائكٌ في عرف اللاهثين خلف ثقافة « افعل ودعْ «، لكنه ممتعٌ لمن تستهويه مثل هذه الدراسات، كما أنه ميسرٌ لمن خفَّف من غلواء عقله فآمن واطمأنّ وانصرف عن تساؤلات الشكّ التي لا تنتهي إلا لتبدأ، وقد تقود المتورط فيها إلى البأس أو اليأس؛ فربما اعتدَّ بتفكيره فقاده إلى إعلائه فوق مدارات التسيير والتخيير، أو ربما اضطرب داخلُه فسلك مساراتٍ موحشةً تعزله عن محيطه وقد تدفعه إلى انتباذ الحياة.
** ولأن هذا الاستفهام لا يعني شيئًا لأغلبية الناس الذين لا يُعيرونه مزيدَ تأملٍ فإنه يلتبس لديهم - في الوقت نفسه - بالانتماء القبلي والمناطقي والمذهبي، حيث تضيعُ الهوية الأنويَّة داخل الانتماءات الجمعية، وأكثرها انتماءاتٌ قطيعية تابعة وربما متعصبة قد تؤدي إلى تهميش الآخرين وربما معاداتهم، ونتساءل عنهم : لماذا لا تختلف صورة الهوية كما اختلف شكل السفينة ؟ وهل تُعد هُويةً تلك المرتبطةُ بالخضوع لإرثٍ مجتمعي ضمن دائرة محدودة ؟
** لنعدْ إلى موضوع السفينة/ الهُوية في محاورة من يتفرغون لمقابلة آراءٍ لاحقةٍ بسابقة، وتبدو أكثر جلاءً عند رصد حراك من انتقلوا من ضفة إلى أخرى فاتهموهم بالتلون والانتهازية أو على الأقل: «البراغماتية»،وهي تهمةٌ لا تخص بلدًا أو أسماءً أو مواقف، لتظلَّ جائرة حين تُعمم وتُعوّم ولا بد لها من قراءاتٍ واستقراءات.
** الهُوية تأسو وتقسو.